أوروبا مستعجلة على قطار العراق.. ما قصة 22 مليار دولار؟!

964 – ميسون الشاهين

في البدء، واجه كثيرون صعوبة في التعامل مع ملف سكك حديد “مفاجئ” ستكلفنا 22 مليار دولار، حين أثارها النائب ياسر الحسيني، فالبلاد وقفت على ساق واحدة بعد ما سُمي بـ”سرقة القرن” وقيمتها نحو 2.5 مليار دولار، ولذا كان التعامل مع رقم بعشرة أضعاف، أمراً عسيراً، لكن تصريحات رئيس الوزراء محمد شياع السوداني عن إنشاء “طريق التنمية المؤقت باستعجال دولي” جعلت الرؤية أكثر وضوحاً. وقد لا يكون دقيقاً كل ما قاله النائب الحسيني عن ملف القطارات، لكن ما يمكن التحقق منه بعد تصريحات رئيس الحكومة، هو أن الملف ليس مختلقاً بالكامل، فبغداد جادّة بالفعل بترميم سكة الحديد القديمة التي تربط البصرة بمشارف حدود العراق مع تركيا، وذلك “استجابة للظروف (الأمنية المتصاعدة) في البحر الأحمر”، وهي بذلك “تستعجل” فتح طريق التجارة (بناءً على توصية البنك الدولي) قبل انتهاء “الطريق الأصلي” وفق تعبير السوداني، لكن كيف يقرأ الخبراء والقوى المسلحة هذا المشروع والتوجه الجديد؟

الحكومة عن "فضيحة السكك و22 مليار دولار": أوقفها السوداني منذ نيسان

تقرير: فرصة ربح كبرى للعراق والوقت يضيق على أوروبا.. ممر دولي للغاز بنحو عاجل

تفاصيل:

“استعجال” العراق لم يكن نابعاً فحسب من رغبة البلاد الجامحة بالدخول إلى خارطة طرق تجارة العالم بعد عقود من العيش خارج الجغرافيا، بل بتوصية من البنك الدولي وفق السوداني.. “قالوا لنا استعجلوا”، لكن “الاستعجال” بمشروع طريق التنمية برمّته، لا يبدو محل ترحيب لدى الجميع كما يظهر واضحاً في بيان فصيل “كتائب حزب الله” مطلع أيار الماضي، حين قال إن “المشروع مازال مصدر قلق”.

السوداني يعلن إنشاء "طريق تنمية مؤقت" ريثما ينتهي الأصلي

فصيل للسوداني: احذر مع البحر الأحمر

يقول متحدث عن فصيل مسلح بارز لشبكة 964 إن “طريقة إعلان رئيس الوزراء عن الأمر قد لا تكون موفقة.. إن ما وصفه السوداني بـ”ظروف البحر الأحمر” هو في الحقيقة إشارة للمقاومة الإسلامية في اليمن التي تعمل على قطع الطريق أمام إمدادات إسرائيل، نصرةً لغزة، والعراق جزء فاعل من محور المقاومة ولديه في هذا السبيل قادة وشهداء ومعركة دائرة.. لم يكن صائباً أن نُظهر هذا الحماس بفتح مسار بديل للتجارة الدولية أثناء محاولة المحور الضغط على إسرائيل وحلفائها من أجل وقف الحرب”.

ويتابع “مازلنا نعتقد أن دعمنا حكومة السوداني فيه مصلحة وخير، الأخوة في الإطار التنسيقي يعتقدون ذلك وأيضاً نحن في المقاومة الإسلامية، وحتى ما يُسمى بطريق التنمية إذا كان يحقق مصالح العراق وحلفائه فسيحظى أيضاً بمباركتنا، وكان بإمكان رئيس الوزراء الحديث عن الأمر بصيغة أكثر حذراً وبتوقيت ملائم أكثر”.

كتائب حزب الله قلقة من طريق التنمية: لم نلمس جدية الحكومة بإخراج الأميركان

مستشار السوداني: طريق التنمية انطلق.. البككة والميليشيات "نسكتهم بالفلوس"

رغم أن السويس مزدحمة جداً!

وبعيداً عن موقف تلك القوى، مازالت فكرة إنشاء “طريق تنمية مؤقت” ثم “طريق تنمية أصلي أو دائمي” محل جدل، فكيف تنفق البلاد هذه المبالغ وبمشروع قد يستغرق سنوات تأسيساً على أحداث البحر الأحمر التي قد تنتهي بتوقف الحرب الإسرائيلية على غزة، رغم أخذ الخطة بالحسبان التزاحم الكبير على قناة السويس التي لم تعد بنظر الكثيرين، تستوعب التجارة العالمية المتنامية، مقارنة بتاريخ إنشاء هذا الممر الملاحي قبل نحو قرنين.

يصف مستشار اقتصاد النقل الدولي زياد الهاشمي الإعلان الحكومي الأخير بـ”الارتجالي والمستعجل والمتخبط” ويقول إن السبب الرئيسي للفكرة هو “غياب المستثمرين نتيجة ضعف جدوى المشروع وارتفاع كلف التشغيل وملفات الفساد التي تكشفت للعلن مؤخراً”، ويستغرب من تفكير الحكومة بنقل جزء من تجارة العالم إلى الخط العراقي القديم المتهالك، ويضيف إن الحكومة العراقية لم تراقب طبيعة استجابة حركة التجارة العالمية لتحديات البحر الأحمر، وإعادة تنشيط خط “Cape route” على الطريق القديم حول رأس “الرجاء الصالح” في جنوب أفريقيا، إلى جانب الخط الواعد “جبل علي – الرياض – جدة” ثم قناة السويس، متجاوزاً توترات باب المندب، ورغم أن الهاشمي لا يشير إلى الطوابير الطويلة التي تصل إلى انتظار السفن أسبوعين في قناة السويس، التي يعرض العراق على زبائنه -ضمناً- تجاوزها عبر طريق التنمية بإغراء ست ساعات برية عبر القطار نحو موانئ المتوسط في تركيا، لكن الخبير الاقتصادي يشن هجوماً ضد الإعلان الحكومي الأخير عن الطريق المؤقت، ويعتقد أن المشروع الذي تلتف حوله آمال ملايين العراقيين بدأ يقترب من “الدعاية والتخدير”.

السوداني عن الاتفاق السعودي الأميركي الهندي: العراق أقصر الطرق للعالم

مستشار حكومي رفيع

مستشار حكومي رفيع تحدث لشبكة 964 شرط إخفاء هويته، قال إنه “يأسف لإقحام هذا الملف المتعلق بمستقبل أجيال العراقيين في المناكفات السياسية والتصفيات الانتخابية.. بصرف النظر عن ظروف ما سُمي ملف الـ 22 مليار دولار.. لكن هل ثمة بالفعل مَن يناقش بصواب فكرة أن ينعش العراق ويرمم سككه الحديدية القديمة أو ينشئ جديدة.. أفترض أن هذا ليس خاضعاً للنقاش”.

ويتابع “البلاد تضع اللمسات الأخيرة على المرحلة الأساسية ميناء الفاو الكبير (تتلوها خمس مراحل توسعة تصل إلى 90 رصيفاً).. العمل سار بوتيرة لم يتوقعها كثيرون، وحين يفتح الميناء أبوابه للسفن، كيف سننقل بضائع العالم؟.. إن الاستعجال الذي يستنكره البعض مقرون بالمتحقق على الأرض، وكثيرون لم يستوعبوا حتى الآن أننا بالفعل نكاد ننتهي من ميناء الفاو، وأننا بحاجة فورية وبأي طريقة إلى خط سكك”.

بالنسبة لما فهمه كثيرون، وبالعودة إلى تصريحات حكومية كثيرة، فإن “طريق التنمية هو مشروع يقدم فيه العراق امتداده الجغرافي ويلتزم بحفظ أمن التجارة، ويستقبل استثمارات الممولين من قطر والإمارات وتركيا لبناء السكة الطويلة” وبينما افترضت التقارير أن كلفة المشروع -التي سيدفعها المستثمرون وليس العراق- 17 مليار دولار، كان مفاجئاً حديث الحكومة عن 22 مليار دولار مقابل ترميم سكة قديمة قائمة، لا تحتاج سوى ربط الفاو بالشعيبة في البصرة، وجزءاً آخر من الموصل إلى تركيا.

أردوغان لقادة قطر والإمارات: تعالوا نبني سكة الحديد العراقية.. نريد أموالكم

يقول سبهان ملا جياد مستشار رئيس الوزراء لشبكة 964 إن “المبالغ التي عرضها النائب الحسيني ربما خضعت للمبالغة”، أما الناطق باسم وزارة النقل ميثم الصافي، فيقول:

غير المختصين لا يقدرون الكلفة الحقيقية لمشاريع السكك، فمبلغ 22 مليار دولار ليس كبيراً، لأن إنشاء خط سكة بطول 1 كم يكلف 3 ملايين دولار على الأراضي المنبسطة، و5 مليون إذا كانت مثل الفاو مثلاً، وهذا المشروع يتضمن 45 قطاراً من نوع DMU بطاقة 800 راكب، إلى جانب تجهيز 1500 شاحنة لنقل المواد الصلبة كالحجر، و1500 شاحنة حوضية لنقل المواد الكيميائية، و20 ماكنة “لحام” عملاقة، و15 ماكنة تحكيم رقمية” إلى جانب منازل ومجمعات سكنية ومرافق متعددة، ومع هذا.. لم تتم المصادقة على العقد، وكان يُفترض أن يكون بالتشغيل المشترك وأن لا تدفع الحكومة أي مبالغ.

ويرفض النائب ياسر الحسيني “مفجّر الملف” الحديث عن “عدم دفع العراق تكاليف المشروع” ويؤكد أنه “مهما كانت صيغة بنود العقد فإنه يحتوي مخارج قانونية قد تقود إلى رهن نفط العراق، وتحميله التكاليف”.

استعجال واستعجال دولي

ومع اختلاف توجهات الخبراء والساسة والمستشارين والنشطاء الذين تحدثت لهم شبكة 964 خلال إعداد التقرير، ورغم تباين شدة الحماس إزاء طريق التنمية بين قلّة تشكك بجدواه، وآخرون يرون فيه أكبر خطوة ثورية يقدم عليها العراق منذ اكتشاف النفط، فإن ثمة إجماعاً على ضرورة حث رئيس الحكومة العراقية من أجل إطلاق خطاب مصوّر واضح، أو ندوة موسعة للرد على كل الالتباسات التي تلاحق أكبر مشروع تنعقد عليه آمال العراقيين، ومن خلاله سيُحكم على ميناء الفاو الكبير ليكون محطة على تجارة العالم أم ميناءً محلياً، بما يعنيه ذلك من أهمية الإفصاح عن كل المعلومات حول مصير المستثمرين الخليجيين والأتراك، والكلف الحقيقية والنهائية للمشروع، والطرف الذي سيتولى التمويل، وأخيراً السر في كلمة السوداني حول “استعجال البنك الدولي” لاستخدام المعبر العراقي، بما فيه من إشارة إلى احتياجات أوربا المتزايدة من الطاقة والإمدادات وسط حرب روسيا وأوكرانيا، خصوصاً مع ورود إشارات مهمة في حديث السوداني إلى هذا الأمر في الآونة الأخيرة.