حسين الهنداوي وأرشيف لوموند

آخر كلمات الزعيم قاسم.. لا يخفي جروح صدّام وفرحان بمدينة الصدر وفيلسوف الكوفة

964

نشر الباحث والدبلوماسي العراقي الدكتور حسين الهنداوي، ترجمة للقاء مطول من أرشيف جريدة لوموند الفرنسية، أجرته مع الزعيم عبد الكريم قاسم المثير للجدل داخلياً وخارجياً، والمعروف بمعاركه حول النفط والاستقلال والبعث والشيوعية وسوى ذلك، واختار الهنداوي أن ينشغل في الذكرى 66 لثورة أو انقلاب 14 تموز الذي أنهى الحكم الملكي وأعلن الجمهورية، بإضاءة زوايا نادرة وثقها لقاء الصحيفة الفرنسية قبل 4 أيام من مقتل الزعيم في انقلاب البعث الشهير، والانطباعات التي دونها الصحفي أدوارد صعب المبعوث الخاص لصحيفة «لوموند» ونشرتها على الصفحة الاولى من عددها الصادر في 5 شباط 1963، وبرز من كلامه عناوين كثيرة مثل تعهده بأن يشهد عام 1963 ولادة برلمان عراقي منتخب!، وسعادته بظهور مدينة الثورة وحلمه بمسبح كبير ترفيهي لسكانها المهاجرين من جنوب البلاد إلى بغداد، بينما لاحظ الوفد الفرنسي أن قاسم كان يفرك منديلاً بيده، بسبب توتر ناتج عن شلل في الكتف، وهي أثر الرصاصات التي أصابته في محاولة الاغتيال الشهيرة عام 1959 والتي شارك فيها صدام حسين مع رفاقه البعثيين، متطرقاً كذلك إلى مؤتمر حول فيلسوف عراقي من الكوفة، جاء بأساتذة باريس حيث ساهموا في ترطيب الأجواء مع بغداد، مع نقاط كثيرة أخرى تخص الإعلام العربي، وتأكيده أنه يجرد الشرطة من السلاح حين يرسلهم لفض اعتصامات الطلاب في جامعة بغداد تلك الأيام.

وقد وضعنا لتسهيل القراءة عناوين بين معقوفتين من إضافة محرر شبكة 964 على النص الأصلي القديم للصحيفة الفرنسية.

وعاشت الجمهورية.. عاد تموز وبغداد تستذكر الزعيم بعتب ال...

وعاشت الجمهورية.. عاد تموز وبغداد تستذكر الزعيم بعتب الديمقراطية (صور)

8 نقاط عن المرأة وعهد الملك وقاسم.. مرافعة حيدر سعيد: لا ...

8 نقاط عن المرأة وعهد الملك وقاسم.. مرافعة حيدر سعيد: لا نزاع مع الإسلام

"عاشت الجمهورية".. نداء إلى العراقيين للخروج في ذكرى 14 تموز ضد خروق البرلمان

فيديو:

فيديو: "ماتت الجمهورية" في كل مكان وانتصرت في دار المدى.. كيف عاش الزعيم؟

أرشيف صحيفة «لوموند»، الفرنسية، قبل 66 عاماً، ترجمة د. حسين الهنداوي، تابعتها شبكة 964:

لوموند. الصفحة الأولى. بغداد، 4 شباط 1963، من ادوارد صعب:

أمضيت بعضاً من الليلة الماضية برفقة الزعيم عبد الكريم قاسم. بدأت مقابلتي معه في التاسعة من مساء الخميس وتواصلت حتى فجر الجمعة. وفي حوالي الثانية عشرة ليلاً كان على الزعيم قاسم أن يستقبل مبعوثين من محطات الإذاعة والتلفزة الفرنسية، عبّر لهم عن انشراحه لعودة العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا.

لا يحب رئيس الحكومة العراقية أجهزة التسجيل الصوتية ولا ضوضاء آلات التصوير. كما يبغض المقابلات التقليدية المستعجلة. أما أجوبته فهي عامة بل عامة جداً احياناً.

[جرح صدام حسين واضح في كتفه]

ولقد بدا لي متوتراً، “يبدد توتره” في منديل صغير يضغط عليه بشكل دائم في راحة يده اليسرى التي تسند كتفاً تعرض للشلل منذ ان اخترقته رصاصات خصومه. فمحاولة الاغتيال التي نجا منها بمعجزة في عام 1959 تركت آثاراً عميقة عليه، حيث خرج منها ضعيف البدن. فهذا الرجل الذي أعود لملاقاته للمرة الاولى منذ حزيران 1959، لم يفقد شيئاً من حيويته ربما، إلا أن ثمة تجاعيد تعتلي الآن جبهته السمراء كما أن ملامحه توحي ببعض القلق.

لقد قال لي «ساعتان أو ثلاثة من النوم تكفيني يومياً، وأنا مستمر هكذا منذ أربعة سنوات. فعندما  أسمح لنفسي بالنوم أطول من ذلك يداهمني إحساس بالذنب. تنتظرني واجبات كثيرة.. بينما عمر الإنسان قصير جداً..». وسمح لي الزعيم قاسم، بمعية ضابطين من مساعديه وبضعة مراسلين أجانب كانوا في مكتب ملاصق لمكتبه، أن أزور قسم الأرشيف العائد لسكرتيره الصحفي الضابط برتبة رئيس سعيد نوري. وهنا طلب الزعيم أن يقدم لنا الشاي، ثم توجه لي منهمكاً في أحاديث حول مواضيع لا ترابط بينها أحياناً. موضوعاته المفضلة هي الحديث عن حب المقربين والتضامن العالمي وخصوصاً البؤس، إضافة إلى الوسائل الكفيلة بتحرير الفقراء من مشاكلهم.

يقول الزعيم: «انا نفسي منحدر من وسط فقير جداً، وهو ما أعترف به بكل فخر، كان ابي نجاراً، وقد واجهت أمي الكثير من الضنك في سعيها لكي احصل على تعليمي المدرسي. لذلك أستطيع ان اتصور ماذا تعني المدرسة في حياة الأطفال. وهو ما يفسر لكم لماذا أنا في عجلة لضمان التعليم المدرسي لكل الأطفال الفقراء في بلادي. ذلك لأنني أريد أن أجنبهم المشاق التي واجهتها في طفولتي».

[اعتصام الجامعة وجرّد الشرطة من السلاح]

حتى تلك اللحظة كان حديثه مثيراً للعواطف. إلا أن نبرته وأسارير وجهه ما لبثت ان تغيّرت كما لو انه آخذ بلعب دور شخص آخر أكثر تلاؤماً معه، حيث راح يبدو صارماً بل ومهدداً.. وهو يضيف: «لكن حذار… إن اقدامي ثابتة بمتانة على الأرض، كما ان رأفتي لا تذهب أبعد من الحدود المقبولة. انني لا احب التنظير، لكن عندما يتعلق الامر بالمساس بهيبة الدولة سنضرب بسرعة وبشدة. فنحن لا نمزح عندما يتعلق الامر بالمساس بالمبادئ. ان ما قام به نفر من الطلاب قبل أيام حيث سمحوا لأنفسهم بالاعتصام في مكاتب إدارة جامعة بغداد، هو تجاوز على سلطة الدولة. وأقول بشكل واضح على الدولة، ولا أقول على عبد الكريم قاسم. ولذلك، أرسلت مفرزة عسكرية لإخراجهم منها. إلا أنني مع ذلك حرصت على أن أجرد الجنود من الأسلحة قبل ان أرسلهم لينصحوا صناع الفوضى بالعودة إلى رشدهم».

فيلسوف عراقي أعاد العلاقة مع فرنسا

وفجأة توقف الزعيم عبد الكريم قاسم عن الكلام. إلا ان شفتيه استمرتا في التحرك، أو هكذا تبديتا لي، كما لو أنه أخذ يتفوه بكلمات موجهة لغيري. ثم للحظة خيل لي أن ابتسامة منه اوشكت أن ترتسم على وجهه، غير انها لم تكن في الواقع سوى حركة لا إرادية من فكه الاعلى. كان ينظر لي نظرة توحي بالتركيز، مما أكد لي بان الرجل متألم جسدياً كما معنوياً. وهنا انتقل إلى الحديث عن فرنسا قائلاً: «توجد بيننا وبين الشعب الفرنسي روابط لم يمكن لأحد ان يفسدها بما في ذلك حرب الجزائر. لقد قمنا بسببها بقطع علاقاتنا مع الحكومة الفرنسية. وتوجب من أجل ان نعيد علاقاتنا مع فرنسا، تدخل رجال الأدب الذين جاءوا إلى بغداد للمشاركة في احتفالات ذكرى الفيلسوف العراقي الكندي. فلقد تأثرت جداً من جانبي بخطابات الاساتذة جاك بيرك وبلاشير. اذ اكتشفت آنئذٍ إلى أي درجة كان شعبنا قريباً من الشعب الفرنسي؟».

[فرنسا تختلف عن عقوبات الإنكليز والأميركان]

ويواصل الزعيم عبد الكريم قاسم قائلا: «الا انني لا اقول ذات الشيء حيال الانجليز والامريكيين. فما الذي لم يفعله هؤلاء لكي يستعبدوا العراق ولكي يحكموا قبضتهم على ثرواتنا؟ والادهى من ذلك، انني استلمت قبل بضعة ايام فقط مذكرة تهددني فيها واشنطن بفرض عقوبات ضد العراق اذا تمسكت بمواقفي. ولا ادري كيف يعطون لأنفسهم الحق باستخدام لغة كهذه؟ ان الفترة الهاشمية ولّت إلى غير رجعة. وهم لا يدركون ان جمهوريتنا لا يمكن قهرها طالما هي نابعة من إرادة الشعب وحده.

هل هناك مؤامرات أخرى تهدد نظامكم؟

هناك المؤامرة الاخطر. وهذه ليست موجهة ضد العراق ولا ضد سوريا انما ضد فلسطين بشكل خاص. فهناك مؤشرات في الاجواء توحي بوجود مؤامرة لتصفية المشكلة الفلسطينية تقودها الولايات المتحدة الامريكية. وهم يدركون ان النجاح في تنفيذها يقتضي التخلص قبل اي شيء من الحكومات التقدمية المناهضة لاسرائيل. والامريكيون يتمتعون سلفاً بتواطؤ عدد من الدول العربية، ولم يبق عليهم سوى خنق سوريا والعراق. لذا فهم يخلقون لنا شتى الصعوبات داخل البلد بهدف اشغالنا بعيداً عن الاهتمام بالمشكلة الفلسطينية. وفيما يتعلق بسوريا، فانني اقولها علناً باننا سنكون إلى جانبها مع اول اشارة. فهم يسعون، كما في العراق، إلى تلغيم البلاد من الداخل. انني اعرف أسماء كافة العناصر المخربة، إلا ان الامر لا يعود لي بصفتي رئيساً للحكومة. اصدار الامر باعتقالهم اتركه للاجهزة المسؤولة في الدولة كي تقوم بواجباتها الملقاة على عاتقها. أيضاً ان من المفيد ان نمنح لكل فرد منهم فرصة العودة إلى رشده. فما اعتقده احياناً مع نفسي هو انه لابد ان يأتي ذلك اليوم الذي سيعودون فيه إلى جادة الصواب. انني أفضل العفو عند المقدرة، لكن يجب عدم استغلال ذلك. وكما تعلمون فان عليّ منع عناصر التخريب من التقاط انفاسها.

[ياه يا إذاعات العرب واتهاماتها!]

ورغم هذا كله لا تتوقف اذاعات وصحف بعض الدول العربية من اتهامي بالاختلال وحتى الجنون الحاد وبالدكتاتورية وبغيرها من الاتهامات.. لكننا لن نترك لهذه الاتهامات ان تستفزنا سيما ونحن نعرف بأنها تصدر عن ادوات في خدمة الاستعمار. فهذا الأخير اوجد له بعض الوسائل يأمل عبرها ان يتسلل إلى صفوفنا.

– سيادة الرئيس، مضت سنتان منذ وعدتم العراقيين بدستور دائم وبانتخابات وبمجلس تشريعي. أين وصلتم في انجاز كل هذه المشاريع؟

اذهبوا إلى مدينة الثورة (الصدر) الجميلة

– أتحدى ان يُذكر لي مثال واحد عن تعهد قطعته ولم التزم به. ففي يوم من الايام، وكان ذلك في 11 حزيران 1959 خلال مؤتمر الشبيبة الديمقراطية الذي انعقد في بغداد، قطعت وعداً ببناء «مدينة الثورة». آنئذ اعتبرني كثيرون مجرد حالم وطوباوي. لكن الجميع اليوم بإمكانهم الذهاب إلى هذه المدينة اللطيفة التي يعيش فيها ثلاثمائة وخمسون الفاً من السكان جميعهم من ذوي الدخل المحدود. وقريباً ستكون لها حدائق عامة وشوارع مبلطة ومسبح كبير. وفيها الآن عدد من المدارس ومستشفى ومستوصفات بنيت بالتزامن مع بناء المنازل. وهذا ليس كل شيء. هناك أيضاً سد دربندخان الاروائي الذي كلف الدولة 26 مليون دينار واترك الكلام عن الطرق والساحات والنصب والعمران والمصانع الحديثة والاصلاح الزراعي وغيرها. وكل هذا بهدف اشاعة الرفاه الاجتماعي. اننا لا نعادي الاغنياء ما داموا مستعدين لمعاونتنا في سعينا الهادف إلى رفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي للفقراء.

أتعهد بالدستور العراقي

اما فيما يخص الدستور، فإنني اتعهد الآن علناً بان لجنة من الخبراء ستشكل بل نهاية شهر شباط 1963، لتكلف باعداد مشروعي دستور دائم وقانون انتخابي جديد. وسنضع تحت تصرفها من أجل ذلك، نصوص عدد من الدساتير الاجنبية ومنها النصوص السويسرية والالمانية والفرنسية والمصرية والسورية… وفي كل الاحوال، انني اتعهد علناً أمام الشعب بان يكون عام 1963 هذا عام ولادة الجمعية الوطنية العراقية.

[لم يسقط.. لم يعد ثورياً]

صار الوقت متأخراً حيث كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية فجراً. إلا ان الزعيم قاسم بدا كمن يشعر بحاجة قوية للتكلم عن منجزات ثورته. وعنها تحدث طويلاً. انه يرفض تهمة الدكتاتورية التي توجه له ويشعر بسرور أن يرى من يستمع له وقد اقتنع بما يقوله. على أية حال، بإمكاننا ان نتصور ما نشاء عن هذا الرجل الذي اعلنت الصحافة الدولية والعربية مراراً طوال السنوات الاربع الماضية عن سقوطه الوشيك بينما عرف ان يصمد في موقعه. بيد ان الزعيم قاسم لم يعد ثورياً. فلقد وجدته واقعياً مؤمناً برسالته ويتمتع بطريقة تفكير راجحة وأكثر تطوراً من تلك التي يتمتع بها كثير من زعماء الدول العربية سواء الذين ينظرون له نظرة حقد أو نظرة شفقة. كانت الساعة قد بلغت الرابعة وخمسة وأربعين دقيقة من ذلك الفجر الذي بدأ يطل علينا. عندئذ وجدت ان الأوان قد آن كي انصرف. استأذنت الرجل، فمدّ لي يده مصافحاً وهو يقول: «سلّم لي على عمال المطبعة في الجريدة».