964
يتأمل الباحث العراقي البارز هشام داود مشهد دخول الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، إلى السجن بتهم فساد خلال تمويل حملات انتخابية، لكنه يتنقل بين محطات التاريخ الفرنسي مقارناً لزوايا مهمة بين مؤسسات العدالة والحكم، وكذلك رأس المال وعلاقته بمؤسسات الصحافة في باريس.
سرقة القرن في اللوفر: سبع دقائق هزّت فرنسا.. تعليق من هشام داود
من الدولة إلى العشيرة: هل يُدار العراق بعقلية “شيخ”؟ تعليق من هشام داود
هشام داود، باحث في الأنثروبولوجيا السياسية – المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية، في مقال خص به شبكة 964:
في قلب الدائرة الرابعة عشرة من باريس، يقف مبنى حجريّ يحمل مفارقة لغوية وتاريخية: سجن “الصحة”. لا يحمل اسمه وعدًا بالعافية، بل ظلًّا ساخرًا من زمنٍ مضى؛ فالاسم مأخوذ ببساطة من الشارع الذي يطل عليه، لا من مضمونٍ يبعث على الطمأنينة. ومع ذلك، صار هذا السجن منذ افتتاحه عام 1867 رمزًا لعدالةٍ فرنسيةٍ تمشي ببطءٍ، وأحيانا بتعثر، ولكن بثبات، وعدالةٍ تُطلّ أحيانًا من خلف الجدران لا من على المنابر.
مساحةٍ السجن محدودةٍ نسبيًا، لكنه يحمل رمزيةً ضخمة في الذاكرة الفرنسية. هو آخر السجون الباريسية داخل المدينة (intra-muros)، وقد احتضن منذ قرنٍ ونصف أسماء عشرات الشخصيات الكبرى: من السياسيين والإداريين إلى الإرهابيين مثل كارلوس.
بعد عمليات ترميم واسعة، خُصص جناحٌ منه يُعرف بـ “الربع الرابع” (ارجو عدم الخلط مع الربع المعطل في العراق)، يُوضع فيه من تُعتبر حياتهم مهددة أو يحتاجون إلى عزلة. وغالبًا ما يُسكن فيه السياسيون أو الشخصيات الحساسة. وهكذا، أصبح “الصحة” مختبرًا يوميًا لفكرة العدالة الفرنسية في أكثر صورها تجريدًا ودرامية.
من نافذة بيكيت
ومن غرائب المصادفات أن الكاتب الإيرلندي صاموئيل بيكيت، صاحب “في انتظار غودو”، عاش غير بعيدٍ عن السجن نفسه. كان بيكيت، المعروف بحساسيته المفرطة تجاه الضجيج، يضيق بصخب المدينة، لكنه يتسامح مع أصوات السجناء حين يضربون احتجاجًا، قائلاً إن «صوتهم هو الوحيد في المدينة الذي لا يمكن إسكات معناه».
لو عاد بيكيت بالأمس إلى نافذته في شارع “الصحة”، لأنصت لعودة ضجيج وصخب أحبه ذات يوم، لا من الزنازين بل من تدافع الصحفيين وعدسات كاميراتهم التي تابعت دخول نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي الأسبق، السجن نفسه، في مشهدٍ لم تعرفه الجمهورية الخامسة من قبل: مشهد أمة تحاكم نفسها. في مسرح العبث كان أبطال في انتظار غودو ينتظرون ما لا يأتي، أما فرنسا فقد انتظرت طويلًا عدالةً جاءت متأخرة.. لكنها جاءت.
من الإليزيه إلى الزنزانة
في صباحٍ باردٍ من 21 تشرين الأول/أكتوبر، وصلت سيارة رمادية داكنة إلى بوابة السجن في الساعة التاسعة وسبعٍ وثلاثين دقيقة. في داخلها ساركوزي، الرئيس الأسبق الذي عاش ذروة السلطة، واليوم يواجه ثقل العدالة. عند البوابة، كان في استقباله مدير مصلحة السجون الفرنسية شخصيًا، لا شرطيّ مناوب. لحظةٌ رمزية تختصر المفارقة بين هيبة المنصب وسلطة القانون.
قبل يومٍ واحد فقط، كان ساركوزي في قصر الإليزيه بدعوةٍ من الرئيس إيمانويل ماكرون، وسط أحاديث سياسية وصورٍ رسمية. لكن في اليوم التالي، سارت العدالة في طريقها دون التفاتٍ للمجاملات. حُكم عليه بالسجن خمس سنوات، منها ثلاث نافذة، بتهم تتعلق بالفساد واستغلال النفوذ، في قضية تُعدّ من أخطر ملفات التمويل السياسي في تاريخ الجمهورية.
نُقل الرئيس الأسبق إلى زنزانةٍ انفرادية لا تتجاوز مساحتها عشرة أمتار مربعة: سرير معدني، فراش بسيط، حمّام صغير، هاتف أرضي، وتلفاز متواضع. يُسمح له بساعة نزهةٍ يومية انفرادية دون الاحتكاك بالسجناء الآخرين، وبطلب وجبات من خارج السجن على نفقته الخاصة. أما الحراسة، فتولّاها (الى جانب حراس السجن) عناصر من قوات الأمن الخاصة حفاظًا على “سلامته” رغم انه لن يكون في احتكاك مع بقية السجناء، ما أثار نقاشًا واسعًا حول المساواة أمام العدالة.
جمهورية القضاة أم جمهورية الرؤساء؟
منذ مطلع القرن العشرين، يصف الفرنسيون بلادهم أحيانًا بأنها “جمهورية القضاة”، وهو تعبيرٌ صاغه أستاذ القانون الفرنسي إدوار لامبير في كتابه حكومة القضاة (1921)، الذي حذّر فيه من تغوّل القضاء حين يتحول من حارسٍ للقانون إلى سلطةٍ تُعيد تعريفه. لكن المفارقة أن فرنسا اليوم أصبحت تجسّد تلك “الجمهورية القضائية” التي تملك الجرأة على استدعاء الوزراء ومحاكمة رؤساء الحكومات وسَجن رئيسٍ سابق للجمهورية.
ليست هذه نزعة انتقامية، بل نتيجة توازنٍ عميق بين سلطةٍ قضائيةٍ مستقلة وصحافةٍ استقصائيةٍ حرة. وقد أسهم هذا التوازن في بناء أحد أهم عناصر الديمقراطية الفرنسية: ثقافة المساءلة.
الصحافة والعدالة: تحالف الحقيقة
قضية ساركوزي ما كانت لتصل إلى المحاكم لولا الدور المحوري الذي لعبه موقع ميديا بارت (Mediapart)، الذي كشف منذ عام 2012 خيوط التمويل الليبي لحملته الانتخابية عام 2007. تتابعت بعد ذلك التحقيقات، وظهرت وثائق مسرّبة وشهادات موثقة دفعت النيابة العامة إلى فتح ملف قضائي كبير، تبعته سلسلة استدعاءات وتحقيقات لكل الحلقة المحيطة بساركوزي، وانتهت بالحكم الحالي.
في فرنسا، ما زالت هناك صحافة حرة متحررة من هيمنة رؤوس الأموال الكبيرة (من عائلة داسو لصناعة الطائرات الحربية مثل رافال وميراج والتي تسيطر في ذات الوقت على العديد من الصحف مثل لوفيغارو، وعائلة لاغارديير لصناعة الصواريخ والقذائف التي تسيطر على أغلبية دور النشر الفرنسية، وعائلة بولوريه المهيمنة على جزء كبير من اقتصاديات افريقيا وتملك أيضا العديد من الفضائيات). فالصحافة المهنية ليست مجرد مراقب للسلطة، بل فاعلٌ أساسيّ في تصحيحها. حين تتقاطع الصحافة والقضاء، تتشكل معادلة نادرة: ديمقراطيةٌ تُراقب نفسها!
العدالة البطيئة… تمشي لكنها لا تتوقف
يعرف الفرنسيون أن قضاءهم ليس مثاليًا: يعاني من قلة الموارد، ومن طول الإجراءات، لكنه يظلّ قائمًا على مبدأ أن لا أحد فوق القانون. في السنوات الأخيرة، لم يسلم من المحاكمة رؤساء حكومات ووزراء وقيادات حزبية. بل إن القضاء أصدر قبل أسابيع حكمًا بالسجن خمس سنوات مع وقف التنفيذ على مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف ومرشحة الرئاسة الأوفر حظًا، بتهمة إساءة استخدام المال العام.
هذه المشاهد ليست عادية في جمهورياتٍ أخرى، حيث يُستخدم القضاء كأداةٍ بيد السلطة أو أطراف مهيمنة. أما في فرنسا، فهو ما يزال سلطةً قائمةً بذاتها، تحاكم الجميع باسم الدولة لا باسم السياسة.
يحدث هذا في زمنٍ تتعرض فيه الليبراليات الغربية لهجوم التيارات الشعبوية والسلطوية والـ “لا ليبرالية” (illibéralisme). وسط هذا المناخ، يبدو مشهد إدخال رئيسٍ سابقٍ إلى السجن تذكيرًا بأن الفصل بين السلطات ليس شعارًا نظريًا بائدا لاحد اسلاف فرنسا التاريخية (مونتسكيو)، بل ممارسة مؤسسية قادرة على حماية الدولة من نفسها.
قد يخرج ساركوزي قريبًا من الحبس بعفوٍ أو باستئنافٍ ناجح، وقد يمكث بعض الوقت. لكن محاكمته ثم دخوله “سجن الصحة” بحد ذاته علامة فارقة في ذاكرة الجمهورية. فالعدالة، حين تتحرك ولو ببطء، تُعيد للدولة معناها، وللديمقراطية كرامتها.
كيف سيؤثر ذلك على الشرق الأوسط؟
حكومة فرنسا ماتت في 14 ساعة.. هشام داود يتأمل مصير الجمهورية الخامسة مع ماكرون
6 احتمالات لشكل الحرب العالمية 3
الجنرال الساعدي يعود إلى الضوء مع سيناريو حرب إسرائيلية ضد إيران خلال 3 شهور
ملف “الدكة” ضد غالب الشابندر
من الدولة إلى العشيرة: هل يُدار العراق بعقلية “شيخ”؟ تعليق من هشام داود
فيديو كامل لمحاضرته في بغداد
حيدر سعيد يراجع تركيب “جماعة الأهالي”.. صفحات سبقت ظهور البعث والشيوعيين
هل بدأ التحوّل الأوروبي؟
ماكرون يعترف بدولة فلسطين في الأمم المتحدة… ولكن ماذا بعد؟ – تعليق هشام داود
استعراض لفرضيات ما بعد صدام
حيدر سعيد: ماذا يعني أنني شيعي سياسياً؟ تشرين لم تنتج حزباً
السويب يختبر مهارة تقاسم الضرر
خريطة تشرح ما يفعله الخليج.. أول توتر في التاريخ بين شمال وجنوب البصرة!
عرض الجميع
