تقرير مركز الإمارات للسياسات

حكومة بغداد المقبلة.. خامنئي وترامب ينسحبان “خطوة” لصالح تركيا والعرب

964

نشر مركز الإمارات للسياسات، وهو يصدر من أبو ظبي، نشرة أبحاث أسبوعية يكتبها باحثون من مختلف أنحاء العالم، تقريراً حول التقديرات الأخيرة للانتخابات العراقية، استعرض خلاله حال الساحات الكردية والسنية والشيعية، ووضع المستقلين والمدنيين والقوائم المحلية، وركز على أن خيارات رئيس الحكومة محمد السوداني سترتهن بقدرته على “تشتيت قوى الإطار”، بينما يتراجع دور كل من واشنطن وطهران “خطوة”، لصالح تقدم أوضح لدور تركيا والعرب في تفاهمات السنوات المقبلة.

سافايا “هدد” السوداني.. تسوركوف: زرعت شيفرة يهودية والكتائب نشرتها “بالخطأ”

ترامب “يشعر بالعراق” ولا يفكر به! عقيل عباس يشرح دور المبعوث سافايا

ترامب قبل انطلاق القمة: أعتقد أن إيران ستنضم إلى الركب وهي تحتاج بعض المساعدة

ضبط حدود الصراع

مهّد إقرار البرلمان العراقي بداية عام 2023 قانون انتخابات مختلف عن قانون عام 2021، باعتماد طريقة “سانت ليغو” وتقليص الدوائر الانتخابية، الطريقَ للحفاظ على توازنات القوى داخل العملية السياسية في غياب التيار الصدري، وتقليل هامش المتغيرات المحتملة. فالديناميات التي منحها القانون السابق عبر احتساب الفائر الأعلى أصواتاً وتقسيم المحافظات إلى عدة دوائر انتخابية، ساهمت بصعود غير محسوب للصدريين بـ 73 مقعداً، وهو ما شكَّل الحصة الأكبر من المقاعد الشيعية التي تصل إلى 180 مقعداً من بين 328 مقعداً في البرلمان قبل انسحاب كتلة الصدر من مجلس النواب، بالإضافة إلى صعود نحو 60 نائباً من المستقلين وممثلي الأحزاب الصغيرة، في مقابل تراجُع ملموس لمعظم القوى الحزبية التقليدية، وتلك التجربة وضعت معياراً لما جرى بعدها.

وعلى رغم أن عمليات الاستبعاد من الترشح للانتخابات اتخذت منحىً دراماتيكياً في خلال الأشهر الأخيرة، وشملت مئات المرشحين لأسباب تتعلق باجتثاث البعثيين أو القيود الجنائية أو “حُسْن السيرة والسلوك”، واُتُّهِمَ بعضها بوجود دوافع سياسية خلفه، فإن تأثيراتها الفعلية على الخريطة التي قد تفرزها الانتخابات لا تُعدُّ جوهرية، وتعكس في الإطار العام المساعي الرامية لضبط متغيرات الخريطة ومنع انفلات التوقعات حولها، خصوصاً مع ملاحظة الزخم المالي غير المسبوق الذي رصدته الأحزاب للحملات الانتخابية والاتهامات المتبادلة بالفساد واستغلال إمكانات الدولة، والاستخدام المفرط للخطاب الطائفي والعنصري، ودخول رجال أعمال ممثلين لـ”الاقتصادات الحزبية” في السباق الانتخابي بشكل مباشر. والمتغير الأكثر وضوحاً في هذه التجربة تَمثَّل في مشاركة معظم المليشيات التي تُواجه ضغوطاً أمنية ومالية أمريكية، بشكل تنافسي في الانتخابات، بما يعكس المنحى الجديد لتلك المليشيات التي كانت تُفضِّل في التجارب السابقة أن تعمل في ظل الأحزاب السياسية الأخرى.

الساحة الكردية: العودة إلى الثنائية القطبية

تتنافس القوى الكردية على ما بين 56 و60 مقعداً برلمانياً يسيطر على معظمها حزبا “الديمقراطي الكردستاني” بزعامة مسعود بارزاني المهيمن في أربيل (15 مقعداً)، ودهوك (11 مقعداً)؛ و”الاتحاد الوطني الكردستاني” بزعامة عائلة جلال طالباني والذي يتمركز في السليمانية (18 مقعداً)، وكركوك (13 مقعداً)، بالإضافة إلى مقاعد يحوز عليها الحزبان من محافظة نينوى (لكل المحافظة 34 مقعداً).

وكانت التجارب السابقة قد شهدت تزاحم قوى كردية ناشئة مثل “التغيير” و”الجيل الجديد” والأحزاب الإسلامية، على نحو 10 مقاعد اقتطع معظمها من مساحة نفوذ “الاتحاد الوطني الكردستاني”.

ووفق المعطيات الحالية، فإن المتغيرات السياسية الداخلية التي شهدها حزب “الاتحاد” بعد العام 2021 وانعكست بشكل إيجابي على نتائج الحزب في انتخابات الإقليم العام 2024، ستكون أكثر وضوحاً في الانتخابات المقبلة التي من المتوقع أن تتراجع فيها الأحزاب الأصغر، خصوصاً بعد صدور أحكام بالسجن ضد رئيس “حراك الجيل الجديد” شاسوار عبد الواحد، واعتقال زعيم حزب الشعب والرئيس المشترك السابق للاتحاد الوطني لاهور شيخ جنكي، بالإضافة إلى تراجُع فاعلية حركة التغيير والقوى الإسلامية.

ووفق المراقبين، من المحتمل أن تؤدي استعادة التوازن التقليدي بين الحزبين الكرديين الرئيسينِ المتوقع حصولهما على عدد مقاعد متقارب (ما بين 25 و30 مقعداً)، بعد اختلال ذلك التوازن لصالح حزب بارزاني في خلال المراحل السابقة، إلى تسريع التقارب بين الحزبين لتشكيل حكومة الإقليم المعلَّقة منذ أكثر من عام، من طريق حسم المناصب الرئيسية المتنازع عليها، سواء في حكومة الإقليم أو في بغداد، وفي مقدمتها منصب رئيس الجمهورية المقبل.

ويتم التركيز بشكل واضح في بغداد، خصوصاً من القوى الشيعية، على ضرورة حسم الحزبين الكرديين بشكل مبكر لمرشح منصب رئيس الجمهورية، أو التخلي عن المنصب لصالح السُّنة (وهو خَيارٌ مطروح لكنّ حظوظه قليلة)، من أجل تفكيك الاشتراطات الدستورية التي تتطلب حصول المرشح على أغلبية الثلثين من أعضاء البرلمان ليس من طريق التصويت الأول فقط، بل وعلى مستوى عدد المشاركين في جلسة التصويت، حيث وقفت هذه القضية عائقاً أمام تمرير مرشح التحالف الثلاثي (الصدر، وبارزاني، والحلبوسي) عام 2021 للمرشح الكردي لرئاسة الجمهورية، وبالتالي إعاقة تكليف الرئيس الجديد مرشح الكتلة الأكثر عدداً بتشكيل الحكومة.

ولا يمكن الجزم بإمكان حصول اتفاق كردي عاجل على منصب رئيس الجمهورية، إذ من المتوقع أن يطرح حزب بارزاني صفقة تشمل منح حزب طالباني منصب رئيس الإقليم أو رئيس الحكومة، في مقابل تخلّي الأخير عن رئاسة الجمهورية في بغداد، وهي صفقة تُشير أوساط “الاتحاد الوطني” إلى أنَّه من الصعب القبول بها حتى الآن.

الساحة السُّنية: تقدُّم الحلبوسي

على الرغم من الزخم الإعلامي والاقتصادي الذي رافق زعيم حزب “السيادة”، خميس الخنجر، مع تولي الحكومة العراقية الحالية برئاسة محمد شياع السوداني، الذي أصبح الحليف الشيعي الأقرب إليه، في مقابل تراجُع رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي في أعقاب عزله من منصبه وإقالته من مجلس النواب، فإن الحلبوسي قلب المعادلة في خلال العام الحالي، ومثَّل ذلك انعكاساً لتغيير حصل في التحالفات الشيعية نفسها، والتي انتقلت من دعم القوى الشيعية غير المحدود للسوداني عامي 2022 و2023 إلى الانتقال تدريجياً لتقويض سلطاته ومحاصرة طموحاته السياسية، ما انعكس بشكل مباشر على الخنجر الذي استُبعِدَ من الترشح للانتخابات بسبب قضايا اجتثاث حزب البعث، قبل أن يُحرَم من رئاسة حزبه “السيادة” فيضطر إلى تأسيس حزب رديف باسم “السيادة – تشريع” للمشاركة في الانتخابات مع حرمان عدد من أعضاء الحزب من المشاركة تباعاً.

والفرضية التي سادت حول احتمال تقاسُم الحلبوسي والخنجر معظم المقاعد السُّنية التي قد تصل في هذا الموسم الانتخابي إلى 75 مقعداً، تراجعت بشكل واضح في الشهور الأخيرة لصالح بروز تحالف “عزم” برئاسة مثنى السامرائي، وتحالف “الحسم” برئاسة وزير الدفاع الحالي ثابت العباسي.

وقد خدم الوضع الجديد تحالف “تقدُّم” برئاسة الحلبوسي الذي حقق نتائج إيجابية في انتخابات مجلس المحافظات نهاية عام 2023، ليصبح القوة الأكثر ترجيحاً للحصول على ما بين 35 و40 مقعداً برلمانياً، معظمها من الأنبار (وحصتها 15 مقعداً)، وبغداد (وحصتها 71 مقعداً) في الانتخابات المقبلة، في مقابل حصص أقل لمنافسيه تتراوح بين 8 إلى 15 مقعداً لكل منهم.

وتقدُّم الحلبوسي الذي يبدو متاحاً في الانتخابات المقبلة، قد لا تتم ترجمته إلى نتائج مباشرة في خلال مرحلة تشكيل الحكومة واختيار المرشح السُّني لمنصب رئيس البرلمان في حال عقد خصومه تحالفاً مشتركاً، وهو الخيار الذي قد يبدو أقرب إلى الواقع ليس فقط بسبب صعوبة كسب الحلبوسي لأحد الفائزين السُّنة من أجل تشكيل تحالف حاسم، وإنما لأن انقسام الوضع السُّني بين كتلتين أو أكثر هو مشهد مريح للقوى الشيعية الرئيسة التي تتحكم بمعظم مخرجات الوضع السياسي والانتخابي العراقي.

ومع أن الحلبوسي بدا في خطاباته الانتخابية الأخيرة جازماً في عودته إلى رئاسة مجلس النواب في المرحلة المقبلة، والمنافسة قبل ذلك على منصب رئيس الجمهورية، فإن مثل هذا الخيار سيكون مرتبطاً بالدرجة الأساس في نجاحه في منع تشكيل كتلة سنية موازية، ما يضع احتمالات التوجه نحو شخصية مقبولة من الأطراف المختلفة على الطاولة.

والمدخل لحسم المعادلات السُّنية في البرلمان والحكومة المقبلين يرتبط بالدرجة الأساس بالطريقة التي ستحسِم فيها القوى الشيعية صراعها، خصوصاً أن مراكز الثقل في الساحة الشيعية سوف تدفع باتجاه ترجمة نتائجها بشكل سريع في ترتيبات الخريطة السنية.

الساحة الشيعية: تحدّي السوداني

خفّض محيطُ رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني والفاعلون في كتلته الانتخابية “الإعمار والتنمية” في الشهور الأخيرة، بشكل تدريجي، من سقف توقعاتهم المرتفع حول النتائج المتوقعة لكتلتهم في الانتخابات، وتزعزعت القناعات التي كانت قد بدت راسخة بشأن فرص تولي السوداني ولاية ثانية لرئاسة الحكومة. وهذا المتغير فرضته عوامل عدة بعضها يخص حراك السوداني السياسي الذي أثار مخاوف شركاء “الإطار التنسيقي” الحاكم، وبعضها الآخر يتعلق بطبيعة كتلة السوداني الانتخابية التي تفتقر إلى السياق والمسار الواضحين، وظهرت أحياناً بوصفها تجمّعاً انتخابياً بين قوى وشخصيات غير منسجمة سياسياً وأيديولوجياً، جمعتها الرغبة في الاستفادة من الزخم التصويتي لمنصب رئيس الحكومة.

والتحدي الذي فرضه السوداني في خلال اندفاعه باتجاه حسم نتائج الانتخابات في الساحة الشيعية لصالحه، عَدَّتهُ قوى “الإطار التنسيقي” التي شكّلت حكومته “تحدياً وجودياً”، ليس فقط على مستوى أوزانها السياسية التي بالضرورة ستتقلص مع تصاعُد وزن السوداني الانتخابي، استناداً إلى تجربتها مع زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الذي سعى بعد فوز كتلته إلى تشكيل حكومة بمعزل عن القوى الشيعية الأخرى، بل وقبل ذلك لأن معادلة الحكم في العراق لا تقوم على رئيس حكومة ينتزع منصبه بحجم مقاعده الانتخابية، بل يحصل عليه باعتباره جزءاً من نجاحه في إدارة التزاحم والصراع بين القوى الفاعلة الرئيسة الكبرى داخلياً، وإدارة التدافُع الإيراني-الأمريكي بما له من تبعات إقليمية خارجياً، وهذا الدور ما زالت تحتاجه القوى المحلية، كما تحتاجه طهران وواشنطن والعواصم المجاورة أيضاً.

ويمكن الحديث في هذا الشأن عن اتفاق عقدته قوى “الإطار” الشيعية مجتمعة، بمعزل عن السوداني، يركز على ثلاثة محاور أساسية: أولها، العمل على تعاون قوى الإطار للمحافظة على أوزانها الحالية، وأن تكون مجتمعة في القوة الشيعية الأكبر بغياب التيار الصدري؛ والمحور الثاني، العمل على حسم الاسم المرشح لرئاسة الوزراء، على أن يكون من خارج قوى الإطار ولا يحمل طموحاً سياسياً مستقبلياً؛ والمحور الثالث، أن يدير الإطار علاقاته مع القوى المحلية ومع المجتمع الإقليمي والدولي بشكل مباشر، وبمعزل عن رئيس الحكومة المقبل، الذي سوف يسحب منه دور الوسيط بين تلك القوى والخارج.

وعلى أساس هذه الرؤية، تذهب توقعات تلك القوى إلى خريطة انتخابية شيعية يحصل فيها السوداني على قرابة 35 إلى 40 مقعداً نصفها يعود إلى تحالفات تنسحب من كتلة السوداني وتندمج في “الإطار”، في مقابل حصول كتلة المالكي الانتخابية “دولة القانون” ما بين 30 و33 مقعداً، وأن تتقدم كتلة “صادقون” بزعامة قيس الخزعلي للحصول على 18 إلى 20 مقعداً، وقريب منها كتلة “بدر” بزعامة هادي العامري، وكتلة “قوى الدولة” بزعامة عمار الحكيم بواقع 15 إلى 18 مقعداً، وأن تتقاسم كتل أخرى مثل “حقوق” التابعة لمليشيا “كتائب حزب الله”، وخدمات التابعة لزعيم “جند الإمام” شبل الزيدي، و”تصميم” التابعة لمحافظ البصرة أسعد العيداني، و”أبشِر يا عراق” بزعامة همام حمودي، نحو 25 مقعداً بنسب مختلفة، ومثلها كتل صغيرة أخرى.

إنَّ مثل هذه الخريطة سوف تضمن لـ”الإطار التنسيقي” نحو 110 مقاعد في الأقل قبل التوجه إلى القوى السنية والكردية لعقد اتفاقات شاملة معها لحسم الرئاسات الثلاث وتشكيل الحكومة.

وعلى رغم أن رؤية السوداني، الذي يبدو في لحظة الانتخابات معزولاً بشكل غير مسبوق عن قوى “الإطار” الأخرى، لا تتفق مع هذه التوقعات، فإن أكثر توقعاته إيجابية لا يبدو أنها تؤثر جوهرياً في هذه الخريطة. فحصول كتلة السوداني على ما يتراوح بين 60 و65 مقعداً، مع ضمان عدم انفصال المتحالفين داخلها مثل رئيس “الحشد الشعبي” فالح الفياض، ورئيس كتلة “خدمات” أحمد الأسدي، و”إبداع كربلاء” برئاسة محافظ كربلاء نصيف الخطابي، لن يكون مُنتجاً إلا في حال تمكُّنه من إحداث انشقاق كبير في “الإطار التنسيقي”، يضمن انضمام معظم كتله إلى السوداني في تحالف واحد.

والسيناريو الأقرب إلى الواقعية، وفق المعطيات المتاحة، يتضمن نجاح السوداني بالحصول على 40 إلى 45 مقعداً، كما سيضمن نحو 20 مقعداً من قوى صغيرة أخرى، فيما تحصل قوى “الإطار التنسيقي” مجتمعة على نحو 80 إلى 90 مقعداً، وستعمل على استقطاب 20 مقعداً آخر للقوى الصغيرة، ومِن ثمَّ قد تعمل على التفاهم مع كتلة السوداني نفسها لتشكيل الحكومة مع استبعاد خيار الولاية الثانية.

ونجاح أيّ من الطرفين في ضمان القسم الأكبر من المقاعد الشيعية ليس كافياً بالضرورة، فالأمر على المستوى المحلي سوف يعتمد على نوع الصفقة التي سوف تُعقَد مع القوى الكردية والسُّنية، وعلى المستوى الخارجي سيتحقق ضمن حدود التداخل الإيراني والأمريكي في خيارات الحكومة المقبلة والقوى المهيمنة عليها.

المعادلات الخارجية

شاعت أخيراً تكهنات في وسائل الإعلام العراقية حول إمكانية تدخل الإدارة الأمريكية بشكل مباشر، سواء في التأثير على نتائج الانتخابات أو اختيار الحكومة المقبلة، خصوصاً بالإشارة إلى توقيت اختيار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب مبعوثاً خاصاً له إلى العراق، وهو رجل الأعمال من أصول عراقية مارك سافايا، الذي دشن وظيفته بإعلان أن هدفه أن “يجعل العراق عظيماً مُجدداً”، بما يشمل تقويض سلطة الجماعات المسلحة. لكن واقع الحال لا يدعم هذه التكهنات حتى الآن، ليس فقط بسبب حداثة الخبرة السياسية للمبعوث الجديد وحاجته إلى استيعاب المشهد العراقي بشكل عميق، بل أيضاً بسبب طبيعة الاستراتيجية الأمريكية تجاه العراق والتي انتقلت من التداخل المباشر لمحاولة إحداث التغيير من الداخل، إلى الضغط عبر العقوبات الاقتصادية والتهديدات بالاستهداف الأمني من الخارج، وهي استراتيجية أثبتت في خلال الأعوام الماضية نجاعتها وقدرتها على التأثير في توازنات القوى الداخلية، حتى في أوساط المليشيات المسلحة ومحيطها السياسي.

وانتقال واشنطن من دعم الحكومة وتلقي الضغوط الإيرانية المباشرة أو عبر أدواتها العراقية كما في نموذج حكومتي حيدر العبادي ومصطفى الكاظمي، إلى ترك طهران تستحوذ على خيار تشكيل الحكومة وممارسة الضغوط الهائلة عليها من الخارج كما يحدث اليوم، لم يكن متغيراً تكتيكياً في السياسة الأمريكية تجاه العراق، بل معادلة استراتيجية كاملة سمحت لواشنطن أخيراً بتقليص وجودها العسكري السابق وتحديده في مجموعات خاصة، والعمل على تقليص السفارة الأمريكية في بغداد التي تُكلّف نحو مليار دولار سنوياً من دون نتائج ملموسة وحاسمة يمكنها توضيح مسارات هذا البلد.

وتنطبق هذه المعادلة أيضاً على إيران، التي أجبرتها الخسائر الإقليمية والحرب الأخيرة مع إسرائيل على محاولة حماية وجود النظام من الداخل، وقد تبين لها أن خيار تحمُّل مسؤولية حكومة بغداد وقوى “الإطار التنسيقي” كان مكلفاً على مستوى الخسائر الاقتصادية الكبيرة التي تلقتها عبر حزمة العقوبات على مواردها الاقتصادية من العراق.

في ضوء ذلك، يمكن القول إن مرحلة ما بعد الانتخابات العراقية الجديدة ستكون الأكثر وضوحاً على مستوى نوع المشاركة الأمريكية والإيرانية في تشكيل الحكومة الجديدة، لأن كلا الطرفين سيحاولان الابتعاد خطوة عن التداخل المباشر في تفاصيل عملية التشكيل مع وضع شروطه بشكل علني وواضح أمام القوى العراقية المعنية التي لن يكون عليها هذه المرة مُعايرة العديد من الأسماء والخيارات ومحاولة تمرير بعضها على حساب الآخر، بل ستلتزم كما يُتوقع بالهامش الضيق الذي يمكن تلمسه بين اشتراطات واشنطن وطهران. وبروز هذا الهامش يرتبط أساساً بتطورات الأحداث الإقليمية، ومستوى التوتر المتصاعد في العلاقات الإيرانية-الأمريكية، ولكنَّه من جهة أخرى يمنح الجوار العراقي، وخصوصاً تركيا والمنظومة العربية، دوراً أكبر من التجارب السابقة، في محاولة الإسهام بتأمين حكومة عراقية قادرة على المضي بالعراق في وضع سياسي وأمني واقتصادي يزداد تعقيداً داخلياً وخارجياً.

الاستنتاجات

تتَّجه القوى السياسية العراقية الرئيسة إلى تكريس حضورها السياسي من طريق ضبط حدود المتغيرات المتوقعة في الانتخابات النيابية المزمع إجراؤها في 11 نوفمبر الجاري. وفيما عدا التحدي الذي فرضه ظهور كتلة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، باعتبارها منافساً على الساحة الشيعية مع استمرار مقاطعة الكتلة الصدرية، فإن الصراعات في الساحات الأخرى اتجهت إلى تكريس الوجود السياسي وتحديد المنافسات الانتخابية.

والمعادلة التي يمكن للانتخابات المقبلة أن تفرزها لن تشهد وفق المعطيات الراهنة متغيراً داخلياً حاسماً، لكن التجاذب الأمريكي-الإيراني حول العراق ربما يتضمن تعديلات تمنح الأطراف السياسية العراقية المزيد من الحرية في إنتاج معادلات الحكومة المقبلة، لكنَّها تضعها مبكراً تحت الضغوط والاشتراطات الأساسية.

Exit mobile version