ولم تخسر اسمها منذ الملك كوديا
مشاهد جديدة من مدينة “عنه”.. تتحصن بالجبل من الفرس والروم
عنه (الأنبار) 964
منذ أن ابتلعتها مياه سد حديثة في ثمانينيات القرن الماضي، لم تعد مدينة “عنه” القديمة قائمة على ضفاف الفرات كما عرفها أهلها، لكنها ما زالت حاضرة في ذاكرتهم كمدينة جمعت بين العلم والتاريخ، فمنارة “عنه” القديمة، وذكريات الثانوية التي قصدها طلاب من هيت حتى دير الزور، وحديث الأهالي عن مدينة سجلت خالية من الأمية عام 1946، كلها شواهد حية على مكانة هذه المدينة الفراتية التي لم تكن مجرد بلدة زراعية على ضفاف النهر، بل مركزاً علمياً واجتماعياً مر به الرحالة والمؤرخون، فقد احتضنت أول ثانوية في غرب العراق منذ عام 1936، وتحولت إلى رمز لنهضة التعليم والثقافة، حيث قصدها الطلاب من مختلف أقضية الأنبار وصولاً إلى البوكمال ودير الزور، كما عرفت بصناعاتها المحلية وأسواقها البسيطة وأكثر من 150 ديواناً عامراً، وبمكتباتها التي نهضت بالحياة الفكرية، حتى باتت بحق مدينة علم ومعرفة.. هذا الامتداد الحديث يجد جذوره في تاريخ ضارب بالعمق، إذ يُعتقد أن نشأتها تعود إلى 4000 سنة قبل الميلاد، ومرت بالعصور الأكدية والآشورية والبابلية، وصات محط تنافس بين حضارات الفرس والروم، ثم دخلها المسلمون في صدر الإسلام خلال عهد الخليفة عمر بن الخطاب، فأسلم أهل المدينة صلحاً، وهي من المدن القليلة التي حافظت على اسمها التاريخي من أن حكمها ملوك مثل كودو وأدد وزمرلم، وظلت شاهداً على تواصل حضاري فريد، لم تغرقه المياه ولم تمحه الذاكرة.
أساطير قديمة في مدينة "عنه" حول مقابر تلبس الحجرية.. مشاهد جديدة (فيديو)
تغطية راوة وعنه:
التواجد ثلاث شفتات حتى الليل
صباح مثير ومنعش وتعالوا للفرات.. هنا راوة وهذه جزيرة ساحرة
مئة ألف من الزيتون والتين الشوكي
سيل من الأشجار يتجه إلى راوة من جهة الصحراء والبشارة من أبو نائل (فيديو)
حتى مديرة المدرسة شاركت
(فيديو) السيدات باللهجة العانيّة النادرة: نكافح والبازار يعني لنا الكثير
حاتم القدسي – مدرس متقاعد، لشبكة 964:
مدينة عنه من المدن العريقة المغلفة بعبق التاريخ، ويقال إن تأسيسها يعود إلى 4000 سنة قبل الميلاد، تحيط بها سلاسل جبلية من جانبيها ويخترقها نهر الفرات، وتزدان ضفافها بالنخيل والجزر النهرية، مما منحها جواً من الطمأنينة والعيش الرغيد.
في السنة العشرين للهجرة، فتحت المدينة على يد القائد عمرو بن سعيد في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وكان يسكنها آنذاك اليهود والنصارى.
اعتنق أهلها الإسلام صلحاً، لتصبح جزءاً من الدولة الإسلامية، وتتعرض لاحقاً لأطماع الفرس والروم بسبب موقعها الاستراتيجي.
أما أهلها فقد نزحوا من جنوب الجزيرة واليمن واستقروا في عنه، واعتمدوا على التجارة بحكم مرور طرق القوافل، فانتعشت صناعات النسيج والجلود والكلس، وزراعة وانتاج التمور والتجارة.
مع الوقت غلب الطابع الحضري عليها، فافتتحت أول ثانوية في غرب العراق عام 1936، لتتحول “عنه” إلى مركز علمي بارز، وذكر المؤرخ عبد الرزاق الحسين أنها كانت خالية من الأمية عام 1946، وهو دليل على شغف أهلها بالعلم.
ارتبطت المدينة بتاريخها بمدن مجاورة مثل راوة وحديثة والقائم، وكانت مركزاً للتعليم حيث قصدها الطلاب من مختلف الأقضية.
اشتهرت بأسواقها البسيطة وصناعاتها المحلية، من الراشي والدبس وحتى صناعة الملابس، وقد تركت مئات الآثار الدينية والتاريخية أبرزها منارة “عنه” الشهيرة (696 هـ).
رغم غرق المدينة في أحداث لاحقة بفعل سياسات السدود والتهجير، فإن أهلها ظلوا متمسكين بعاداتهم وتقاليدهم، وعرفوا بروح التكافل الاجتماعي.
كنوز عراقية
زياد العاني – عضو رابطة مؤرخي المدن الغربية، لشبكة 964:
مدينة “عنه” ليست مجرد مدينة، بل حضارة متصلة منذ آلاف السنين، فقد عاصرت العهود الأكدية، البابلية، والآشورية.
تعتبر المدينة الوحيدة التي ما تزال تحمل اسمها منذ ذلك التاريخ، بينما اندثرت مدن مثل إيسن، لارسا، أكد، أريدو وآشور.
فيها ما يقارب 162 موقعاً أثرياً وهذا دليل على ثراء حضارتها، ففي العهد الآشوري مثلاً كانت تسمى “عاصمة بلاد سوخي” وحكمها ملوك مثل كودو وأدد وزمرلم.
في العهد العثماني أصبحت قضاءً عام 1825، وكان أول قائم مقام لها رشاد بك، ومنذ ذلك التاريخ توزعت نواحيها إلى جبة وآلوس وحديثة والقائم، لتصبح لاحقاً أقضية مستقلة.
في عام 1936 تأسست ثانوية “عنه” للبنين، أول ثانوية في المنطقة الغربية، ودرس فيها طلاب من هيت إلى البوكمال ودير الزور، كما أنشئت فيها إعدادية صناعة “عنه” عام 1956، أول إعدادية مهنية في الأنبار.
المدينة عاشت بعاداتها الاجتماعية المتسامحة، قائمة على الدواوين التي تجاوز عددها 172 ديواناً، وكانت ملتقى الناس، فيما التعليم بدأ بالـ”ملا” قبل أن تتحول إلى المدارس الأولية عام 1872.
لكنها تعرضت لصدمة كبرى عندما غمرتها مياه سد حديثة عام 1985-1986، فغرقت معها ذاكرة وتاريخ ممتدان لآلاف السنين، إلا أن أهلها حافظوا على إرثهم وتاريخهم، ولا تزال المدينة رمزاً للعلم والحضارة في وادي الفرات.