رأي من الدكتور هشام داود

نحو بروفايل رئيس وزراء جديد.. الممكن والمستحيل في العراق

964

تنشر شبكة 964 تحليلاً للأسئلة العراقية في لحظة انهماك الجميع بالبحث عن حكومة جديدة وفق نتائج الانتخابات الأخيرة، وكل ما يحيطها من تطورات في الداخل اقتصادياً ومجتمعياً، وكذلك العواصف التي لا يتوقف هديرها عبر الشرق الأوسط، ويكتب المفكر العراقي الدكتور هشام داود – وهو باحث في الأنثروبولوجيا السياسية، من المركز الوطني الفرنسي للبحوث، عرضاً تحليلياً معمقاً يستعين فيه بموديلات العلوم الاجتماعية لتفسير حركة الجماعات أثناء اندلاع أزمة الدولة والأمة والاقتصاد، محاولاً تجربة فرضيات لا تزال حية لكبار المفكرين في العصر الحديث، من ماكس فيبر حتى إرنست غيلنر.

بين الممكن والمستحيل: أيّ رئيس وزراء يحتاجه العراق اليوم؟

يعيش العراق اليوم لحظة سياسية متشابكة تقف عند تخوم زمنين متداخلين: زمنٍ لم يكتمل الخروج من ثقله السياسي والاجتماعي رغم مرور أكثر من عقدين من التحوّل، وزمنٍ آخر تلوح بوادره دون أن تتبلور ملامحه المؤسسية. وفي هذه المسافة الرمادية، تتجاور بقايا البنى التقليدية — من شبكات النفوذ الحزبي والفصائلي، والمنظومات القرابية والمذهبية، والفاعلين الموازين داخل الدولة وخارجها — مع محاولات بناء دولة حديثة تسعى إلى ترسيخ شرعيتها على أسس قانونية ومؤسسية. هنا يصبح الحديث عن “الحاكمية” ليس بحثاً لغوياً ولا تحسيناً إدارياً، بل محاولة لكشف كيفية تنظيم العلاقة بين المجتمع والدولة، وكيف تُمارس السلطة وتُضبط حدودها في سياق معقّد يوظّف الهويات كلما ضاقت خيارات السياسة وضعفت أدوات الدولة.

الانتخابات الأخيرة: تمثيل متنازع وصوت فردي مقيّد

أظهرت الانتخابات العراقية الأخيرة هشاشة البيئة الانتخابية وتداخل آليات الدولة بوسائل التأثير الحزبي والفصائلي والمالي. فالفارق الكبير بين نسب المشاركة المعلنة والمشاركة الفعلية، والتضخم غير المسبوق في أعداد المراقبين والركائز الانتخابية للحزبيين الذين تجاوزوا المليونين، يكشف انتقال العملية الانتخابية من ممارسة ديمقراطية إلى مجال للزبائنية والهيمنة. لقد أصبحت الانتخابات مرآة للقدرات المالية والعسكرية للتنظيمات الحزبية وليس لحرية الناخب الفرد، ما يجعل نتائجها انعكاساً لشبكات النفوذ أكثر من كونها تعبيراً عن إرادة مجتمعية واسعة.

وفي هذا المشهد، سعى بعض الفاعلين — وفي مقدمتهم “الإطار التنسيقي” — إلى تقديم أنفسهم باعتبارهم “الممثل الجامع” للمكوّن الشيعي. غير أن هذا الادعاء يتعارض جذرياً مع الواقع الاجتماعي والسياسي الذي يظهر هشاشة هذا التمثيل وتعدّد المزاج داخل المحافظات ذات الغالبية الشيعية نفسها. فالانتخابات جرت بقوائم شيعية منفصلة، وبخيارات متعددة، ما ينفي عملياً إمكانية احتكار تمثيل جماعة بهذا الاتساع والتنوع.

وبهذا، يعمل البعض على تحويل التفويض السياسي في أوقات معيّنة إلى تفويض طائفي يُنتِج جماعة مُسيّسة بدلاً من أن يعبّر عن هوية اجتماعية قائمة. وهنا تبدو الاستعانة بمقاربات إرنست غيلنر مفيدة لفهم كيف تلجأ النخب السياسية إلى الهويات الجمعية كلما عجزت عن تقديم رؤية اقتصادية ومجتمعية واضحة، وكلما تراجعت قدرة الدولة على تمثيل المواطنين باعتبارهم أفراداً لا رعايا لهويات.

ولقد دلّت احتجاجات تشرين 2019 — التي انطلقت من قلب المناطق ذات الغالبية الشيعية — على أن المجتمع أكثر تنوعاً وتعقيداً مما يسمح به خطاب الاحتكار الطائفي. وتثبت التجربة أن الطائفية والعشيرة والمناطقية ليست امتداداً طبيعياً للانتماء، بل أداة تعبئة سياسية تُستخدم حين يتراجع منطق الدولة وتتقدم الولاءات دون الوطنية والمواطنة.

الدولة والفاعل الموازي: سلطة موزّعة وشرعية متآكلة

منذ 2003، نشأ في العراق نمط مركّب من السلطة لا يحتكر فيه المركز الاتحادي القرار السياسي أو الاقتصادي أو الأمني دون ان يذهب ذلك للأقاليم والمحافظات حسبما بتصوره الدستور من نظام لا مركزي. فقد اتسع نفوذ الأحزاب والفصائل المسلحة، وتحولت الوزارات والإدارات إلى فضاءات نفوذ موزعة على قوى متعددة، وتراجع استقلال السلك التقني البيروقراطي لصالح شبكات الولاء. ومع الوقت، أصبحت الدولة — رغم امتلاكها الشرعية الرسمية والموارد المالية — الطرف الأضعف في معادلة السلطة.

ويرافق هذا الضعف البنيوي مع سياق إقليمي ودولي متحوّل: تراجع تدريجي في قدرة إيران على التدخل الإقليمي، ضغوط مالية وسياسية على بغداد عززت اعتمادها على واشنطن في ملفات حساسة، وتغيّرات في النظام الدولي أفرزت منافسة جديدة حول الشرق الأوسط. وهكذا أصبح القرار العراقي محكوماً بإطار “التوازن الحرج” بين قوتين تتنافسان وتتحالفان في آن واحد، ما جعل الدولة محاصرة بخيارات محدودة ومجال مناورة مضيق.

الاقتصاد العراقي: هشاشة بنيوية وريعية غير قابلة للاستدامة.

يمثل الاقتصاد العراقي اليوم جوهر الأزمة الوطنية. فالاعتماد شبه المطلق على النفط ـ بنسبة تتجاوز 90% من الإيرادات العامة ـ جعل البلاد رهينة لتقلّبات السوق العالمية، ومعرّضة لضربات أسعار الطاقة التي لا تملك بغداد أي تأثير مباشر عليها. وفي ظل تضخم الإنفاق الحكومي غير المنتج، وترهّل الجهاز الإداري، وغياب رؤية استثمارية واضحة لتطوير البنية التحتية والخدمات الأساسية، تفاقم العجز المالي وارتفعت مستويات الدين العام، لا سيما خلال سنوات حكومة السيد محمد شياع السوداني التي توسّعت في الصرف دون ضبط مالي أو تخطيط استراتيجي يراعي قدرة الاقتصاد الوطني وحدود موارده.

أما القطاع الخاص، فبقي مختنقاً ببيروقراطية مثقلة، ومهدداً بشبكات فساد ومافيات اقتصادية متغلغلة، ومحروماً من بيئة تنافسية عادلة تسمح له بالنمو الحقيقي. ويتزامن ذلك مع ضغط ديموغرافي متسارع من بين الأعلى عالمياً، في وقت تشهد قدرة الدولة، على تقديم الخدمات الأساسية ـ من صحة وتعليم ومياه وكهرباء ـ تراجعاً مستمراً ومتراكماً منذ سنوات.

بهذا تتجلى أزمة الشرعية التي وصفها ماكس فيبر: تحلل الشرعية القانونية – العقلانية لصالح أنماط شخصية وزبائنية للهيمنة، بحيث تتراجع معايير الكفاءة وتغيب الإدارة المهنية، لصالح أسلوب حكم يقوم على الولاء والمحسوبية، لا على التخطيط والتطوير المؤسسي.

النظام الانتخابي المحلي: إعادة الاعتبار لصوت الفرد

أثبت النظام القائم على الدوائر المحلية (ما دون المحافظة) قدرة أعلى على تمثيل المزاج الاجتماعي الحقيقي، لأنه يعكس التوزيع الجغرافي للهويات دون الحاجة إلى الخطابات الطائفية التي تُطرح على المستوى الوطني. فعندما يُترك الناخب ليعبر في فضاء محلي، يتقدم معيار الأداء والخدمات، ويتراجع خطاب “حماية المكوّن”. بهذا المعنى، ليست التعددية مصدر تهديد، بل طريقة لتنظيم المجتمع سياسياً، شرط أن لا تتحول الهوية إلى أداة لفرض شرعية سياسية قسرية.

الإطار التنسيقي: بين “نصرٍ كسيح” ومتطلبات لحظة تاريخية

يدرك الإطار التنسيقي أن “الانتصار” الذي حققه — رغم أهميته رقمياً — لا يرتقي إلى مستوى النصر السياسي الصلب أو المستقر. فهو انتصار بلا قاعدة جماهيرية واسعة، وبلا خطاب اقتصادي متماسك، وبلا شرعية تمثيلية جامعة. ولهذا تبدو اللحظة أقرب إلى “انتصار متواضع” يفرض على الإطار اعتماد خطاب هادئ وحسابات واقعية، لا التلويح بالقوة أو إظهار الزهو السياسي. فحتى لو اختلفت المدارس الاقتصادية في رؤاها وأدواتها، فإن العراق لم يعرف يوماً “اقتصاداً شيعياً” مقابل “اقتصاد سني” أو “اقتصاد كردي”، بل ورث نموذجاً اقتصادياً ريعيّاً مشوّهاً، قائماً على مورد واحد لا يتحكم العراق بسعره في الأسواق العالمية.

ومن هنا يبرز السؤال الجوهري أمام قادة الإطار: كيف سيتعاملون مع الهدر المالي الكبير الذي شهدته حكومة السوداني، ومع تزايد الديون، ومع الانهيار المستمر في البنية التحتية، ومع التراجع الملحوظ في ثقة المجتمع الدولي بالاقتصاد العراقي؟ (وربما من المفيد التذكير بأن العديد من كبريات الشركات النفطية العالمية انسحبت من العراق خلال فترة حكومة السيد السوداني).

ويُضاف إلى ذلك سؤال أكثر خطورة: هل يتوقع قادة الإطار دعماً دولياً وأميركياً حقيقياً لحكومة تشكّل الفصائل الولائية المسلحة أكثر من نصف مقاعدها؟

وما هو المنطق الذي يمكن أن يبرّر استمرار وجود الميليشيات والفصائل المسلحة في وقت تمسك فيه القوى نفسها بأغلب مفاصل الدولة؟

ثم كيف يمكن للعراق أن يتواصل مع العالم الخارجي في ظل حقيقة أن العديد من القوى “الفائزة” في هذه الانتخابات مسجّلة على لوائح الإرهاب لدى حليف العراق الأبرز: الولايات المتحدة؟

بعد ثلاثة وعشرين عاماً من التجربة السياسية ما بعد 2003، ينتظر العراقيون — كما ينتظر العالم — درجة من النضج السياسي تعيد تعريف السلطة بوصفها مسؤولية عامة، لا غنيمة تُستأثر بها ولا حصانة تُستخدم للاحتماء من المساءلة.

نحو بروفايل رئيس وزراء جديد: ثقافة الدولة وأخلاق المسؤولية

في ظل هذا المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي المعقّد، يصبح الحديث عن “رئيس الوزراء الذي يحتاجه العراق” حديثاً عن طبيعة الحكم نفسه، وعن نمط القيادة القادر على الانتقال من إدارة اللحظة إلى بناء المستقبل. العراق يحتاج إلى شخصية سياسية تمتلك ثقافة الدولة، أي القدرة على:

1. إدارة التعددية بوصفها ثروة اجتماعية لا تهديداً، والعمل على تفعيل الإدارة الفيدرالية واللامركزية في مؤسسات الدولة، ليس فقط في العلاقة بين المركز وإقليم كردستان، بل عبر تفويض العديد من الصلاحيات الأساسية للمحافظات لضمان كفاءة الإدارة وتعزيز المساءلة المحلية.

2. ممارسة السلطة وفق أخلاق المسؤولية، أي الموازنة بين تطبيق القانون وتجنّب الإفراط في استخدام القوة، والالتزام الكامل بمبدأ حصر السلاح بيد الدولة بوصفه شرطاً أولياً لقيام دولة قادرة على الحكم.

3. الانتقال من منطق الوساطة المؤقتة بين القوى السياسية والفصائل المسلحة إلى منطق بناء مسار مؤسسي، بحيث يُدمج جميع الفاعلين ضمن مشروع دولة لا مشروع مكوّن، وينتقل رئيس الوزراء من دور “مدير التوازنات” إلى دور “باني المؤسسات”.

4. تقديم رؤية اقتصادية واقعية، تعيد ضبط الإنفاق العام، وتنظّم الدين، وتطلق إصلاحات خدمية عميقة، وتؤسس لسياسة مالية شفافة وحكيمة قادرة على استعادة ثقة المواطنين والمستثمرين والمجتمع الدولي.

5. امتلاك وعي استراتيجي بموقع العراق في عالم متحوّل، واحترام الاتفاقات والعلاقات الاقتصادية والأمنية والعسكرية، وقيادة دولة منفتحة على محيطها العربي والإقليمي، تبحث عن التكامل الإيجابي مع جيرانها. العراق بحاجة إلى رئيس وزراء مدرك لديناميكيات الصعود الاقتصادي والعلمي متعدد الأقطاب، وبشكل خاص في آسيا، وواعٍ لتحولات الطاقة، والتغير المناخي، وأزمات المياه وإدارتها، ومتابع لآثار التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط والعالم على مستقبل العراق.

6. تجاوز منطق تحديد “الخصم” أولاً كما تصوره كارل شميت، الذي يرى السياسة باعتبارها علاقة “صديق/عدو”. فقد أنتجت التجربة السياسية العراقية “سياسيين شامتين وانتقاميين” أكثر مما أنتجت رجال دولة متسامحين ومنفتحين؛ سياسيين يُعرّفون السلطة عبر من يريدون إقصاءه، لا عبر ما يريدون بناؤه.

ما يحتاجه العراق اليوم هو رئيس وزراء يبحث عن المشتركات والمساحات الجامعة، لا عن الخصوم والأعداء.

من إدارة الأزمات إلى بناء الدولة

لقد استنزف العراق سنوات طويلة في إدارة الأزمات. واليوم، بات بحاجة إلى مشروع طويل الأمد لإعادة بناء الدولة كفاعل مركزي في المجتمع والاقتصاد والأمن. ولا يتحقق ذلك إلا عبر:

· إرادة سياسية واعية.

· مؤسسات مستقلة.

· مجتمع مدني فاعل واحترام حقوق الفرد والجماعات.

· لامركزية حقيقية في إدارة الدولة.

· إصلاحات اقتصادية وإدارية عميقة.

· قيادة تمتلك شجاعة الإصلاح وحكمة التوازن مع مراعاة حال الطبقات الفقيرة.

بين الممكن والمستحيل، لا يزال العراق قادراً على إعادة تعريف مساره السياسي. لكنه بحاجة إلى رئيس وزراء ليس أسير اللحظة ولا رهين الخطاب الهوياتي والطائفي المهووس بالبحث عن “الخصم”، بل صاحب مشروع دولة يقرأ التحولات الإقليمية والدولية بعقلانية، ويفهم المجتمع بعمقه لا عبر صورته النمطية، ويستثمر في المستقبل بدلاً من إعادة تدوير الماضي.

بهذا وحده يمكن للعراق أن يغادر زمنين متداخلين نحو زمن دولة عصرية حديثة، أكثر استقراراً وإنصافاً، وأكثر قدرة على تحويل تنوعها إلى طاقة بناء لا وقوداً لصراعات لا تنتهي.