كان مقرباً من سلفه فرانسيس

هشام داود يكتب عن البابا الجديد وترامب ويقارن الفاتيكان بالحوزة

964

كتب الدكتور هشام داود وهو من أبرز الباحثين العراقيين في حقل الأنثروبولوجيا السياسية، عرضاً مكثفاً لأبرز دلالات اختيار البابا الجديد ليو الرابع عشر، وقربه من البابا السابق، كما معارضته لترامب، إلى جانب مقارنة مع طريقة الحوزة العلمية في اختيار المرجع الأعلى.

مقال الدكتور هشام داود الذي خص به شبكة 964:

يبدو أن الأميركيين لم يتوقعوا ابدا انتخاب بابا جديد من أصول أميركية. لا أعرف إلى أي حد لعب ترامب دورًا مشجعًا في انتخابه (أعني شعورًا عامًا يدفع إلى إيجاد نموذج أميركي آخر ومعولم، ولكن مناقض لترامب ذو الحدود القومية). عمومًا، وكما نرى، فإنه مهما كانت الكنيسة كلاسيكية ومحافظة بطبيعتها، إلا أنها تواكب العصر أكثر من مؤسساتنا الدينية الشرقية، خاصة تحت وقع الحداثة ومكانة الفرد ودور المجتمع المدني.

إحدى دروس انتخاب البابا الحالي (ولو أن الوقت ما زال مبكرًا للخروج بتقديرات أكثر عمقًا) أن أصوله من خارج أوروبا باتت نقطة توازن، وعاملًا لتثبيت مبدأ تعددية الكنيسة الكاثوليكية. رغم ذلك، فإن الحبر الأعظم الجديد كان قريبًا جدا من البابا الراحل فرنسيس، وبالتالي كان حسه الأميركي اللاتيني حاضرًا.

البابا الجديد، الذي ولد في شيكاغو قبل 69 عاما من أب ذو أصول فرنسية وإيطالية وأم من أصول إسبانية، إلى جانب أنه راهب أوغسطيني، دخل الرهبانية سنة 1977، ثم رُسِم كاهنًا في روما سنة 1982، وعمل في الكنيسة الكاثوليكية في بيرو لمدة عقدين وأصبح برتبة كاردينال عام 2023. إلا انه قبل كل ذلك، هو خريج رياضيات وكان لسنوات أستاذاً جامعياً في فيلادلفيا (في الحقيقة، الكنيسة بحاجة إلى شخص مثله نظرًا للعجز المالي الكبير الذي يعاني منه “بيت ابن الله”، كما تصف النومنكلاتورا الكاثوليكية الكنيسة).

من ناحية القيم المجتمعية، تؤكد المصادر المتاحة، على قربه من البابا الراحل فرانسوا، ولو مع شيء من الحذر بالمقارنة (ربما هو متفهم للطلاق، ولكنه ليس ثورياً فيما يتعلق بزواج القسّيسين، ولا بتصدّر المرأة لمهام كبيرة داخل الكنيسة، وهو معارض لزواج المثليين بالطريقة التي تحاول العديد من التيارات داخل المجتمعات الكاثوليكية الغربية فرضه). رمزية اختياره لاسم “ليون الرابع عشر” تبعث على التساؤل، كون “ليون الثالث عشر” يُعتبر ثورياً من ناحية تحولات الكنيسة الداخلية وموقعها في المجتمع.

فاز “ليون الرابع عشر” بشكل مفاجئ تماما بكرسي البابوية بعد أربعة أيام فقط من بدء التصويت (البابا الذي سبقه فاز بعد 13 يومًا من الصراع الانتخابي الداخلي، حيث كانت تُعقد دورتان للتصويت يوميًا، أي أن الانتخاب هذه المرة جاء سهلًا)، كما أن عمره أقل من سلفه: 69 عامًا، ما يعني أن الكنيسة ترغب في إيجاد بابا قادر على البقاء لأكثر من 10 إلى 15 سنة ليتفاعل مع عالم سريع التطور والتحول.

التحديات التي سيواجهها البابا الجديد:

• سياسيًا: سيواجه البابا الجديد الملف الأوكراني المتفجر (خاصةً أن الدول الغربية رأت في الراحل البابا فرنسيس متفهمًا للروس أكثر منه للأوكرانيين).

• الشرق الأوسط: من المهم مراقبة مواقف البابا الجديد من ملفات الشرق الأوسط، وخاصة القضية الفلسطينية، ونظرته لمجتمعات الشرق ليس فقط من زاوية الأسبقية والخصوصية المسيحية بل تعدديتها وقدرتها على العيش المشترك دون أن تتعرض فيها الأقليات (كل الأقليات) للاضطهاد والاضمحلال تحت وقع التهديد ومصادرة الأملاك وتهديم دور العبادة، ثم انتهاء بالإرهاب.

البابا الجديد يختلف عن ابن جلدته (دونالد ترامب) بأنه لا يعمل على عزل الناس عن التواصل فيما بينهم، وغلق الحدود وإرجاع المهاجرين إلى بلدانهم بشكل مذل. ولم يتردد يوم استقبال البابا الراحل فرانسيس، لنائب الرئيس الأمريكي ج د فانس بالرد قائلا: “ج. د. فانس مخطئ: يسوع لا يطلب منا أن نخلق مراتبية لحبنا للآخرين”.

• القضايا المجتمعية وتحديات العصر: موقفه من الأسئلة ذات الطبيعة المجتمعية التي تواجه الكنيسة الكاثوليكية، وهي عديدة، تبدأ من التحولات التي تفرضها الحداثة، الموقف من الحريات العامة، مروراً بتحديات العلم وانتهاءً باللا قطبية الأحادية لعالم اليوم. من أخطر التحديات التي سيواجهها البابا الجديد التفكير بموقع ودور الكنيسة أمام أسئلة العصر مثل: الاستنساخ البشري، الذكاء الاصطناعي، موجات الهجرة العالمية بفعل التوزيع غير العادل للثروات المنتجة والاحتباس الحراري، العلاقة بالأديان الأخرى، تحديث الكنيسة من الداخل، وعلاقتها بالمجتمعات الكاثوليكية في أطراف العالم.

• مركزية الكنيسة: موقفه من الإسراع في نزع المركزية الأوروبية عن الكاثوليكية (وهي ثورة إن حصلت، نظرًا لأن الكنيسة الرومانية هي من صياغة بولس أكثر منها تراث المسيح، وبالتالي فهي أوروبية القيم أكثر منها مسيحية شرقية الأصل وعالمية الانتشار اليوم).

• الواقع الديموغرافي: ينسى بعضنا أن حوالي 60% من كاثوليك العالم اليوم يعيشون خارج أوروبا، والنسبة الأكبر منهم في أميركا اللاتينية، وربما غدًا في أفريقيا وآسيا.

• كاثوليك أميركا وترامب: 60% من كاثوليك الولايات المتحدة (أغلبهم من أصول لاتينية) صوتوا لترامب، فكيف سيتعامل ليون الرابع عشر مع هذا المعطى؟، وهو أيضًا من ثقافة أميركية لاتينية؟ وماذا سيكون موقفه من سياسة إعادة اللاجئين التي تعتمدها إدارة ترامب الثانية؟ لذا ستكون الزيارة الخارجية الأولى للبابا ليون الرابع عشر ذات رمزية عالية: هل سيظهر على الحدود المكسيكية-الأميركية ام بين شباب المجتمعات الفقيرة، أم في إحدى الحواضر الغربية؟

• خبرته السابقة: لم يخرج ليون الرابع عشر من المجهول؛ فبعد تجربته في فيلادلفيا، تم تعيينه، تحت بابوية فرنسيس مديراً رسولياً لأبرشية تشيكلايو، في شمال بيرو. وفي عام 2023، تم تعيينه رئيسًا لمجمع الأساقفة القوي، وهو أحد أهم الوظائف الاستراتيجية في حكومة الفاتيكان.

ملاحظة ختامية:

هيراركية (تراتبية) الكنيسة الكاثوليكية تشبه في بعض أوجهها تراتبية المدن والحواضر الدينية الشيعية كالنجف (وأشد منها قم)، ولكن الحواضر الشيعية المقدسة بقيت إثنو- مركزية في خياراتها العظمى، ولم يصل بها الأمر إلى الاعتراف فعليًا بمرجع أعلى قادم من أفغانستان مثلًا، أو باكستان، ولا حتى من لبنان أو القطيف والبحرين! المرجعية الشيعية العليا حتى اليوم تعمل وفق مركزية شديدة مرتبطة مرتين بالمقدس: في الغالب (وليس دائمًا) بشرعنتها لذاتها القَرابية المُبجّلة عبر الانحدار العائلي، وأيضًا لارتباطها بالمكان/الفضاء المقدس (وليس صدفة أن جميع المراجع الكبار يذكرون بأنهم من مواليد مناطق مقدسة، وهذا ما أسميته في إحدى دراساتي السابقة عن الهوية الجمعية بـ”علوية المقدس” في عملية إنتاج الهوية)، إلى جانب قيمة ووقع الدالة السياسية من حيث القرب أو البعد من مركز القرار. وهذا ما يفسّر أيضًا لماذا بقيت البابوية لقرون محصورة بكاثوليك إيطاليا أو المناطق القريبة منها، كما بقيت المرجعية الشيعية محصورة حتى اليوم برجال دين من أصول نجفية، أو كربلائية، أو من قم، ومشهد، وسامراء، والكاظمية، وفيما مضى الحلة. لكن الكاثوليكية نزعت عن نفسها، منذ قرن أو أقل، هذا الشرط، لتفتح المجال أمام حرية اختيار بابا ليس فقط ينحدر من الكاثوليكية الغربية، كما نرى الآن، بل من أصول أرجنتينية، أميركية/ بيروفية، وربما غدًا أفريقية أو آسيوية!

د. هشام داود

باحث في الأنثروبولوجيا السياسية في المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية.