شهد متحف اللوفر في العاصمة الفرنسية واحدة من أكثر عمليات السرقة جرأة في تاريخه، بعد أن تمكّن أربعة لصوص من اقتحام قاعة أبولون وسرقة تسع قطع ملكية وإمبراطورية خلال سبع دقائق فقط. القطع المسروقة تضم تيجانًا ومجوهرات مرصعة بالألماس، تمثل رموز الإرث الملكي الفرنسي، وأثارت الحادثة صدمة واسعة في فرنسا وانتقادات حادة للحكومة بسبب تقصير أمني في أكثر المتاحف شهرة في العالم.
الباحث في الأنثروبولوجيا السياسية في المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية، هشام داود يتناول في المقال الذي خص به شبكة ٩٦٤ تفاصيل “سرقة القرن” الفرنسية، والهشاشة غير المسبوقة في منظومة حماية المتاحف الفرنسية، في ظل سياسة التقشف وتراجع أعداد الحراس والعاملين في مؤسسات التراث.
حكومة فرنسا ماتت في 14 ساعة.. هشام داود يتأمل مصير الجمهورية الخامسة مع ماكرون
من الدولة إلى العشيرة: هل يُدار العراق بعقلية “شيخ”؟ تعليق من هشام داود
هشام داود يكتب عن البابا الجديد وترامب ويقارن الفاتيكان بالحوزة
سرقة القرن في اللوفر: سبع دقائق هزّت فرنسا
هشام داود
صباح الأحد (19 تشرين الاول – اكتوبر 2025)، وفي نحو نصف ساعة بعد فتح الأبواب أمام الزوار، وقعت واحدة من أكثر الحوادث غرابة وإيلامًا في تاريخ متحف اللوفر. أربعة لصوص محترفين نفّذوا عملية صلفة، محسوبة بدقة، لم تستغرق أكثر من سبع دقائق. اثنان منهم بقيا تحت النافذة لمراقبة المكان، فيما تسلل الآخران عبر النافذة نفسها بعد أن هشموا زجاجها من الخارج. التحقيقات الأولية تقول بأن أنظمة الإنذار انطلقت، والشرطة أُبلغت على الفور، لكن الوقت كان أقصر من أن يمكّنها من التدخل. فالمدة المعتادة لوصول الدوريات لا تقل عن عشر دقائق، بينما كان اللصوص يختفون بالفعل.العملية استهدفت قاعة أبولون، إحدى القاعات المركزية في اللوفر وأكثرها رمزية عند الفرنسيين، لأنها تضم التيجان والمجوهرات الملكية والإمبراطورية. هي القاعة التي يُفترض أن تكون حصنًا، فإذا بها تكشف هشاشة غير مسبوقة في أكثر المتاحف شهرة وهيبة في العالم.
خسارة أكبر من تسع قطع
المسروق تسع قطع أثرية لا تقدر بثمن. قيمتها المادية كبيرة، تاج وحلي من الذهب مرصعة بمئات القطع من الألماس والأحجار الكريمة، لكن أهميتها الرمزية أعظم بكثير: فهي تمثل إرث الملكية والإمبراطورية الفرنسية، وذاكرتها الطويلة عبر القرون. لم تكن البلاد بحاجة إلى هذه الضربة الجديدة، خاصة في وقت تمر الدولة بمرحلة من الانقسامات السياسية والشك والتراجع في موقعها الأوروبي والعالمي.
اليمين المتطرف والمعارضة لم ينتظرا طويلًا ليتخذا من السرقة مادة للهجوم على الحكومة والرئيس ايمانوئيل ماكرون، متحدثين عن دولة لم تعد قادرة حتى على حماية تراثها. ماكرون بدوره أعلن أن ما جرى “اعتداء على التراث الفرنسي”، متعهدًا بملاحقة الجناة وتقديمهم للعدالة. لكن بين اتهامات المعارضة وتصريحات الرئاسة، بقيت الصدمة الأكبر في نفوس الفرنسيين: كيف أمكن أن تُسلب رموز تاريخهم في وضح النهار، ومن قلب قاعة يُفترض أنها الأكثر تحصينًا؟
هشاشة متزايدة
هذه الواقعة لا يمكن فصلها عن مسار السنوات الأخيرة. فملف حماية المتاحف بات شائكًا أمام سياسة التقشف. وحده هذا العام، وحسب النقابات، جرى تسريح أكثر من 160 حارسًا في اللوفر، وهو رقم يصفه المختصون بالخطير. رئيسة المتحف حذّرت أكثر من مرة من التراجع في معايير الصيانة وحتى الحماية، والأمر لم يعد يحتمل المماطلة، لكن الأصوات لم تلقَ التجاوب الكافي. وما حدث بالأمس جاء ليؤكد أن الخطر لم يكن افتراضًا.
ليست هذه أول مرة يتعرض فيها اللوفر للسرقة. منذ بداية القرن الماضي، مرورا بالاحتلال النازي إلى عمليات متفرقة في العقود الأخيرة، فلطالما شكّل مطمعًا للكثير من العصابات المنظمة. لكن هذه أول مرة تتم فيها عملية صلفة بهذا الحجم، في وضح النهار، وفي قاعة من المفترض أنها محصنة بأعلى المعايير.
التاج على قارعة الطريق
المفارقة أن الخبر لم يتوقف عند حدود السرقة. فبعد ساعات من الفوضى، نقلت الأنباء أنّ التاج، أبرز القطع المسروقة، سقط من أيدي اللصوص عند حافة الطريق، بينما كانوا يفرون مسرعين. الشرطة عثرت عليه بعد دقائق، وقد تضرر قليلاً وكان مغطى بالغبار، قبل أن يُعاد إلى المتحف. المشهد بدا سرياليًا: التاج الذي يرمز إلى قرون من التاريخ الفرنسي ملقى على الإسفلت، مثل متاع عابر.
قد تكون فرنسا استرجعت القطعة الأهم، لكن ما جُرح اليوم لم يلتئم باستعادة غرض مادي. ما اهتزّ كان الشعور بأن رموز الأمة الفرنسية يمكن أن تُنتزع فجأة، وأن كبرياء بلد بكامله قد يتعرض للاهتزاز في دقائق قليلة!
أثر لا يُمحى
عاد التاج إلى اللوفر، وقد يظهر قريبا لامعًا كما كان، وربما سيجدون بقية القطع المسروقة. لكن صورة التاج على حافة الطريق ستظل تطارد الذاكرة؛ لأن الفرنسيين، في أعماقهم، يخشون أن يروا بلدهم يومًا كما رأوا التاج، مُلقى بلا كبرياء، بلا هيبة، وبلا حماية.
