قصاصة من أرشيف قديم.. هذا ما كتبه هادي العلوي في مثل هذا اليوم ضد الأنفال
964
انشغل القراء في كردستان بمقال قديم غير متداول في العراق للمفكر البغدادي والمؤرخ المثير للجدل هادي العلوي، بعد أن تولى القسم الكردي في 964 ترجمة المقال إلى الكردية، وتعود القصاصة إلى ارشيف السياسي العراقي الكردي محمود عثمان، ويتحدث فيها العلوي عن صدمته من قسوة حملة الأنفال التي نفذها نظام صدام ضد القرى الكردية في مثل هذه الأيام أواخر الثمانينات.
مقال المؤرخ هادي العلوي، حصلت عليه، شبكة 964:
براءة.. إلى أطفال کردستان
ليس من المعقول أبداً وليس من المنطقي أبداً أن يستمر هذا النهر من الدم في الجريان دون أن يسعى أحد لتسكيره، أي عشق للقتل يتلبس هذا الرجل الذي لم يعد قادراً على العيش خارج هذا النهر؟ حتى كأن السلطة لم يبق لها معنى لديه سوى تحرير مراسيم الموت، بلا حدود، وبلا سبب، وبلا هدف.
إن أي قاتل محترف، جائع، مريض، قد يمر بفترة استراحة يتكلم فيها مع نفسه، وربما طرح عليها سؤالاً عن بعض من اختارهم للقتل إن كان قد أحسن الاختيار.. لكن هذا القاتل / البدعة لا يريد أن يستريح يرفض أن يأخذ إجازة يطرح فيها على نفسه هذا السؤال.
إن الدفاع عن السلطة في العالم الثالث يستوجب القتل لتثبيتها. وهو قد قتل من الناس ما يكفي لتثبيتها طيلة عشرين عاماً، ومع ذلك فهو لم يتوقف عن لعبة الموت. صار وجوده في الحكم يتركز في معنى أن نهر الدم يجب أن لا ينقطع عن الجريان لأن انقطاعه يجعل سلطته بلا معنى.
أباد من رعاياه في المدة ما بين 1968 و1980 قرابة عشرين ألفاً معظمهم بوسيلته المفضلة: التعذيب، الذي يشمل أقرب خلصائه. تقول الروايات أنه أعدم ناظم كزار مدير أمنه العام نشراً بالمنشار لأنه تحداه في المحكمة الخاصة. وتقول أخرى أنه سلق وزير صناعته محمد عايش في طنجرة نحاس (صفرية) لأنه تجرأ عليه في محكمة مماثلة. والخيال الشعبي حين ينسج هذه الصور أنما يستند إلى أرضية هي التي تفسر لنا معظم ما نقرأه في التاريخ القديم والحديث من الأمور الخارقة. فهي ليست مجرد حكي يتناقله الناس دون مضمون أرضي.
ومن الإيرانيين مليون في حرب كلفت جيشه نصف مليون، كثير منهم أعدمته فرق الإعدام العاملة وراء الخطوط لظنه تقصير، أو جبن، أو تراجع.
واليوم وقد سكنت الجبهة الإيرانية، تتوجه الفيالق إلى کردستان. الجيش العراقي هناك معلنا عن حضور بنفس الكثافة. ونفس المعدات ونفس الطريقة في القتال. دليل على أن اندفاعه في تلك الجبهة لم يكن بسبب معنويات خاصة نسبها إليه أنصار الدفاع عن الوطن من العراقيين. فها هو يواصل في كردستان حروبه الإجرامية بكل بشاعاتها. كنت أقول لهم أن هذا الجيش سيقوم بنفس المهمة حين يكلف بالهجوم على بيوتكم.
إن ما يجري في هذه الأيام يتحدى الخيال.. ولا يعبر عنه بقاموس. أشعر بالعي وصعوبة الكلام، أبحث عن مفردات مطابقة وتتعذر علي. صدقوني أني بحثت لعلي أجد ما يساعدني على تحرير وصف لما يجري في كردستان العراقية فلم تسعفني اللغة.
إن الافادات التي أدلت بها منظمة العفو الدولية وبعض الحكومات في أوروبا قد عبرت عن الدهشة.. غير أنها لم تدخل في عمق المفارقة.. كيف يكون هذا الجيش؟ كيف يكون هذا الرجل الذي يعطيه الأوامر؟
إن الجنود العراقيين يجتازون في هذه الساعات الحدود التركية ليصبوا حمم مدافعهم على مخيمات اللاجئين الأكراد. هل سمع أحد بهذا من قبل؟ أن اللاجئين ما أن يجتازوا حدود بلادهم حتى يصبحوا آمنين بحكم الأعراف الدولية. أما ملاحقتهم وراء الحدود، وهم مجرد لاجئين، وبعد أن يكونوا قد سكنوا الخيام، لاستكمال إبادتهم فهذا من خصوصيات جيشنا وقائدة العام. لقد أمست الهمجية التركية بعراقتها في العدوان على شعبها والشعوب المحكومة بها ملاذا لهؤلاء النازحين. ولولا جبن هذا الجيش وخوفه من الأتراك لكانت المخيمات الكردية قد أمحت من الوجود الآن.
يهجم الجنود العراقيون على القرى الكردية لينفذوا خطط إبادة منظمة، كما تقول حرفياً منظمة العفو الدولية في موقف استثنائي خرجت به على لغتها الإنكليزية المحايدة. هذه القرى الوديعة البسيطة المتصوفة في زوايا الجبال طالما فاضت على العراقي باللبن والعسل واستقبلته بنداء، كاكة. الذي يعني عند الاكراد انك آمن على نفسك ومالك وكرامتك الشخصية. فالكردي المادي (من ميديا) هو مثل سفوحه الخضراء لا يصدر عنه إلا الطيب. حتى لصوصهم وقطاع الطرق منهم يملكون من القيم الأخلاقية ما لا لا تملكه أكثر الجيوش تحضراً.
يمسحها الجندي العراقي بحذائه المحمل بالغاز السام. ثم يجمع ما يتبقى فيها من الأطفال والأمهات والجدات حتى يتمتع برؤيتهم وهم ينامون كالفسائل المقطوعة تحت أخامص بنادقه الرشاشة لم يتردد الجندي عن أداء هذا الدور. لم يأخذه الندم ولم يسال الطيار نفسه على من يرمي قنابله الكيماوية ناهيكم عن أن يفكر بالنزول بطائرته في بلد آخر لكي يكتسب الجنسية البشرية ويعلن للعالم حقيقة ما يجري في هذا البلد العجيب. كلا أبداً. بل اقولها عن تثبت – ونحن أبناء قرية واحدة كما يقول المثل العراقي – أنه سيعود بعد أن يفرغ حمولته على غرف نوم الأكراد ليحدث زوجته أو عشيقته عن بطولاته لذلك اليوم.
أيها الطفل الكردي المحترق بالغاز في قريته الصغيرة، على فراشه أو في ساحة لعبه هذه براءتي من دمك أقدمها لك، معاهداً إياك أن أشرب نخب الأمجاد الوهمية لجيوش العصر الحجري ولا أمد يدي إلى واحد من أنظمة العصر الحجري.
أقدمها لك على استحياء ينتابني شعور بالخجل منك ويجللني شعور بالعار أمام الناس أني أحمل نفس هوية الطيار الذي استبسل عليك وليت الناس أراحوني منها حتى يوفروا لي براءة حقيقية من دمك العزيز، أنا المفجوع بك، الباكي عليك في ظلمات ليلي الطويل، في زمن حكم الذئاب البشرية الذي لم نعد نملك فيه إلا البكاء.
اقبلها مني أيها المغدور فهي براءتي إليك من هويتي.