964
سجل رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، 4 ملاحظات على موازنة مالية نادرة طرحتها حكومة محمد شياع السوداني، تغطي ثلاثة أعوام بينما توصف بأنها الأكبر في تاريخ العراق، ووجه إليها أوصافاً بدت قاسية قائلا إنها “بلا أهداف” وتحاول “تلبية طلبات عاجلة للمواطنين، لكنها تخضع للاقتراض والعجز وتقلبات أسعار النفط” كما أكد أن خبرته الأكاديمية في الاقتصاد، تفيد بأن تخفيف آلام الفقراء يتطلب تنشيط قطاعات الإنتاج ولن يتحقق ذلك بهدايا مالية قلقة ومتقطعة.
وورد في مقال وزعه مكتبه وتلقت شبكة 964 نسخة منه:
موازنة 2023، 2024، 2025 ممكنة ام لا؟
موازنات بنود رتيبة، بلا اهداف حقيقية، يسيطر عليها الجانب التشغيلي، وموارد النفط المتقلبة، والعجز والاقتراض. تسعى لتلبية طلبات مباشرة على حساب تعميق الازمة والترهل وتراجع القطاعات الحقيقية. اقترحنا بعد تجربتنا القصيرة في وزارة المالية (2004)، اعادة النظر، ونشرنا مقالات ومذكرات لإصلاحات جذرية أهمها:
1- اخضاع منطق الموازنة لمنطق الاقتصاد، لتكون الأولى جزءاً من الثانية وليس العكس. فالعراق في معظمه اليوم من خزينة وموازنة ومعاشات وثروات ومصارف واصول واراض (اميرية) زراعية وعقارات وممتلكات وغيرها بيد وزارة المالية الشديدة البيروقراطية والتسويف. ولا تمثل ملكية المواطنين والمؤسسات والجماعات والشركات وبقية المؤسسات العامة سوى نسباً قليلة لما بيد الوزارة.
2- الانتقال إلى موازنة البرامج والأداء. فالمطلوب ملاحقة البرنامج ومراحل تنفيذه، لا مجرد وضع حجر الأساس، ورصد التخصيصات، وإعلان المناقصات، ومراكمة المشاريع، لتنتهي إلى المحاكم والمشاريع المتلكئة. لتضيع مئات مليارات الدولارات.
3- تقليل مخاطر تقلبات أسعار النفط باعتماد سعرين. الأول “ثابت” يلبي متطلبات النفقات الضرورية المحكومين بتلبيتها. وهو الجزء الأكبر للموارد. والثاني “متحرك” وهو الفارق بين “الثابت” والحقيقي للأسعار. فيكون “الثابت” ضامناً معقولاً للإيفاء بالالتزامات الأساسية عند الشحة، ليمثل بالمقابل مصداً للإفراط في رفع “التشغيلية”، عند البحبوحة. أما “المتحرك”، فبقية السعر الحقيقي للنفط، وبقية الموارد والقروض والمنح والهبات، الخ. ويخصص (احتياطاً لمواجهة انخفاض الأسعار) لتمويل صناديق الإعمار والأجيال والفقراء، وتلبية متطلبات المشاريع الاستثمارية المحسوبة بعمر المشاريع وليس السنة المالية فقط. فننشط القطاعات الحقيقية، السبيل الوحيد لرفع مستويات العمالة والإنتاج، ولمواجهة الطابع الريعي للاقتصاد، واعتماده على الموازنة التي تعتمد على النفط وأسعاره.
هذا التوجه (او ما يشابهه) يسمح ببناء توجهات إيجابية عديدة، وهذان مثالان:
1) الموازنة السنوية بأفق سنوات عدة. فإذا كان معظم التشغيلية بالضرورة لعام واحد، فإن الاستثمارية يمكن أن تكون للأعوام اللازمة لإنجاز المشاريع. فجاء قانون الإدارة المالية (2019) ليفتح الموازنة لعدة سنوات، وليربطها بخطط التنمية (الفصل الثاني: إعداد الموازنة، خصوصاً المواد 2-10).
2) نشاطات تنموية في القطاعين العام والخاص يحركها الاقتصاد، تستحصل مواردها من المنبع وتسهيلاته لتتحرر من الموازنة وتعقيداتها. وكمثال، نظمت وزارة النفط (2015 وكنت وزيراً) مشروع اتفاق مع الصين أثناء زيارة السيد رئيس الوزراء يومها. المشروع يسعى لاستخدام النفط مقابل الإعمار في المشاريع النفطية وغير النفطية. وهو ما وقع لاحقاً كمذكرة تفاهم (11/5/2018) بين وزارة المالية والجانب الصيني. وعند تولينا رئاسة الوزراء، وزيارتنا للصين (2019)، طورنا ووقعنا الإتفاق الإطاري. وهو لم يكن مجرد قرض، كما يتصور البعض. فما يُطلق “الحساب الاستثماري” هو وضع ما قيمته 100 الف برميل/نفط/يوم (قابل للزيادة إلى 300). انه كمن يفتح حسابا مصرفياً. فيحظى بثقة المصرف لصلابة أصوله. فيستثمرها مع الاستفادة من التسهيلات الائتمانية المختلفة. إنها شراكة متبادلة. فتقرر الحكومة مشاريعها الارتكازية والبنى التحتية والاستثمارية والخدمية، ليقدم الشريك أفضل عروضه، مع بقاء أصولنا والكلمة الأخيرة لنا. وقد اقترحنا هذا التطبيق مع بلدان أخرى كاليابان وغيرها، لنستثمر الميزان التجاري (النفطي) الذي هو لصالحنا. فنحرر جزءاً مهماً من الموازنة من اندفاعات التشغيلية المستحوذة على موارد النفط، ونحرر أنفسنا من دورات السبات والتوقفات اللامتناهية لموازناتنا السنوية. فينمو القطاع اللانفطي، وتنمو العمالة في الخاص والعام، وهكذا. فعندما نقر المشاريع، فهي لن تُعطَل، لأننا وفرنا -ابتداءاً- مصادر تمويلها. فنحرك في الاقتصاد والقطاعات الحقيقية، ما حركته “جولات التراخيص” النفطية. فرغم بعض ثغراتها، لكنها انقذت العراق وضاعفت، العمالة والمنافع، كما ضاعفت انتاج النفط وصادراته، وصرنا الثاني في أوبك، والرابع/الخامس عالمياً.
فهناك فهم خاطئ للاقتصاد. فالأشخاص الاقتصاديون المختلفون يتحركون وفق دوافعهم ومصالحهم واطاراتهم وفرصهم. وواجب السياسة العامة الإحاطة بهذه الأمور وتصريفها بما يحقق النفع العام والخاص. فتضع الحكومة، بعد التشاور مع السلطة التشريعية، ومختلف أصحاب العلاقة والخبراء، في الدولة وخارجها، التقديرات المستقبلية والحالة الحقيقية للاقتصاد الوطني والعالمي. فتصاغ الخطط والاستراتيجيات الضرورية. لتأتي الموازنة السنوية كمقدمة للموازنات اللاحقة، كما اشترط قانون الإدارة المالية. فمجلس النواب سيناقش منطلقاتها، كما سيناقش ويقر مخرجاتها، ويراقب التنفيذ، كل في مجاله.
4- حرمت الأزمة السياسية الحكومة من استكمال كافة متطلبات قانون الإدارة المالية.
لكن في الموازنة اختراقات إيجابية عديدة يمكن للموازنات القادمة تطويرها. والأمل أن لا تعرقل بعض الإثارات النظرية -المحقة- عملية الإقرار، فالتعطيل هو الأسوأ. والضامن أن موازنات الأعوام القادمة تشترط موافقة مجلس النواب أيضاً.
يتطلب تطبيق موازنة البرامج وقانون الإدارة المالية إصلاحات باتت ممكنة لمواجهة تقلبات أسعار النفط. فنستثمر مواردنا بأفضل رؤى الاقتصاد والتخطيط والادخار والاستثمار والصناديق الاحتياطية والبدائل الميسرة الضرورية، لنعبر بها فترات انخفاض الأسعار، ولتعقلن سياساتنا أيام ارتفاعها.
عادل عبد المهدي
